عبدالرحمن الحبيب
كان يُنظر إلى العقول ذات يوم على أنها ساعة رائعة، فصارت تشبَّه بآلة ضغط هوائي أو مائي، ثم أصبحت أشبه بشبكة التلغراف، وبعد ذلك مقسم الهاتف ..إلخ؛ تلك الاستعارات تبدو ساذجة في وقتنا الحاضر، حيث يُعتقد اليوم أن الدماغ يشبه الكمبيوتر، رغم أنها صارت تبدو فكرة باهتة على نحو متزايد.. الآن، مع تحسن الذكاء الاصطناعي بشكل كبير، صار يُنظر إلى الدماغ باعتباره حاسوبًا عضويًا فائقًا؛ وسيكون هذا التصور بدوره فكرة ساذجة في نظر علماء المستقبل. فكيف سنشبه الدماغ غدًا عندما تظهر تكنولوجيا جديدة؟
منذ آلاف السنين، حاول المفكرون والعلماء فهم ما يفعله الدماغ، عضو التفكير الغامض. ومع ذلك، وعلى الرغم من الاكتشافات العلمية المذهلة، لا يزال الغموض عن كيفية عمل الدماغ يكتنف أغلب جوانبه.
«فكرة الدماغ: ماضي ومستقبل علم الأعصاب» (The Idea of the Brain: The Past and Future of Neuroscience) هو عنوان كتاب ماثيو كوب (بروفيسور بجامعة مانشستر)، حيث يتتبع التاريخ الفكري وتطور فهم البشرية للدماغ على مدى آلاف السنين، من تأملات أبقراط، طبيب اليونان الكلاسيكية، إلى الجدل المعاصر حول طبيعة الوعي؛ ويناقش بيولوجية خلايا الدماغ المجهرية.. على الرغم من أن هذه المواضيع تبدو متصلة بعلوم الأحياء (البيولوجي)، إلا أن الكتاب يوضح كيف تشكلت أفكارنا حول الدماغ من خلال أهم التقنيات في كل عصر، مما يضيف جرعة ممتعة من فلسفة العقل، ومحاولة فهم القوى التي تحرك أدمغتنا.
يوضح الجزء الأول من الكتاب أن علم الأعصاب - أكثر من أي تخصص علمي آخر - يتم تعريفه من خلال الاستعارات التكنولوجية، مستعرضاً التاريخ الثقافي والعلمي لكيفية تفكير العصور السابقة في الدماغ. كانت عبارة عن مجموعة من التجاويف التي تتدفق من خلالها أرواح الحيوانات؛ ثم أصبحت آلة، وكانت هذه فكرة مذهلة: ربما يمكنك التحقق منها كما تفعل مع أي آلة، عن طريق تفكيكها إلى الأجزاء المكونة لها ورؤية ما تفعله. كان لا بد من اختراع هذا الاقتراح، حيث تم طرحه لأول مرة في منتصف القرن السابع عشر من قبل عالم التشريح الدنماركي نيكولاس ستينو.
وبعد قرن من الزمان، أصبحت الكهرباء هي الشيء السائد، لذلك بدأ فلاسفة الطبيعة في وضع نظرية مفادها أن الأرواح الحيوانية التي تتجول في الدماغ ربما كانت في الواقع نوعًا من «السائل الكهربائي». ربما، كما اقترح أحدهم، كان الدماغ يشبه إلى حد كبير «بطارية كلفانية». بحلول منتصف القرن التاسع عشر، تمت مقارنة الأعصاب بأسلاك التلغراف والدماغ بنظام كهربائي كامل. في ذلك الوقت تقريبًا، أنتج جنون علم فراسة الدماغ خرائط تفصيلية لكيفية تحديد موقع الوظائف العقلية في أجزاء معينة من الدماغ، ودراسة شكل الجمجمة كمؤشر على القدرات العقلية وسمات الشخصية، والتي أظهر العلم أنها كانت غير صحيحة، على الرغم من أن مبدأ التوطين (الجزئي) لوظيفة الدماغ لا يزال صالحًا.
يؤكد المؤلف على جهلنا الكامل بهذه النقطة، رغم أننا نفهم الكثير من الأشياء اليوم حول الخلايا العصبية في الدماغ وكيفية عملها معًا، لكننا ما زلنا نفتقر إلى بداية باهتة لفكرة لماذا وكيف تنتج وعيك بأنك تقرأ هذه الجملة. لماذا تقوم هذه الخلايا بذلك؟ لماذا لا نصبح جميعًا مجرد روبوتات غير واعية؟
يولي كوب اهتمامًا لكتابات الفلاسفة المعاصرين حول هذا الموضوع، على الرغم - حسب صحيفة الجاردين - من أنه قد يبدو في بعض الأحيان وكأنه يخلط بين وجهتي نظر مختلفتين تمامًا: الفكرة السائدة بأن الحالات الواعية تنتج فقط عن حالات الدماغ (بطريقة ما)، والفكرة الأكثر تطرفًا بكثير فكرة أن الحالات الواعية هي في الواقع مجرد حالات دماغية: أي أن الشيئين متطابقان. وجهة النظر الأخيرة، والتي تسمى عادةً المادية الإقصائية، تتمتع بخاصية التخلص من مشكلة الوعي المزعومة بالكامل، على الرغم من صعوبة قبولها.
يقود كوب القارئ عبر تاريخ علم التحكم الآلي وأجهزة الكمبيوتر المبكرة، ويصل إلى بداية علم الأعصاب الحديث في الخمسينيات من القرن الماضي. أما بقية الكتاب فهو عبارة عن تاريخ غني بتلك الأبحاث، والذي يحفل بالتقدم الاستثنائي مثل تصوير الدماغ، وفهم الناقلات العصبية، وعلم البصريات الوراثي (القدرة على تنشيط الخلايا العصبية بالضوء)، مع الإشارة باستمرار إلى القيود الهائلة التي لا تزال قائمة في حياتنا. الفهم الحالي.
ماذا سيكون الاستعارة الكبرى التالية عن الدماغ؟ من المستحيل القول، لأننا بحاجة إلى انتظار التكنولوجيا التالية التي ستغير العالم. لكن في هذه الأثناء، يقترح كوب، أن استعارة الكمبيوتر قد تضر أكثر مما تنفع. فهو يقول عن حق: «إن الاستعارات تشكل أفكارنا بطرق ليست مفيدة دائما».
الدماغ البشري هو أكثر الأشياء تعقيدًا في الكون، وقد يكون فهم كيفية استحضاره للأفكار والذكريات والعواطف هو السؤال العلمي الأصعب الذي لا تزال إجابته بعيدة المنال.. إذا كان القارئ يبحث عن مقدمة شاملة واحدة عن الدماغ، فهذا الكتاب يمثل المقدمة المرجوة.