تعد الديوانيات الثقافية والاجتماعية في الوقت الحاضر من المؤسسات المجتمعية التي تركت أثرها الواضح والعميق في خدمة الوطن وتعزيز مسيرته ولحمته ونموذجاً للمشاركة المجتمعية.
وقد تعدد الحديث عن بدايات الديوانيات والمجالس أو الصوالين أو المنتديات تاريخياً، فهناك من ذكر أن بداياتها قبل الإسلام، حيث المجالس المفتوحة لدى العرب وغيرهم، ومنهم من جعل بداياتها متتبعاً لها في العصور الإسلامية الممتدة ابتداءً من مجلس المصطفى صلى الله عليه وسلم، وهناك من يرى حداثة نشأتها، حيث ذكر أن بدايتها كانت في بلاد الغرب والتي انتقلت بعد ذلك إلى البلاد العربية عبر بوابة مصر.
وهناك من تتبع بدايتها في الدولة السعودية في أطوارها الثلاثة الأول والثاني والثالث رابطاً لها بالتاريخ العربي والإسلامي، ويرجع هذا الاختلاف في الحديث عن نشأتها لاختلاف الصورة الذهنية للديوانيات أو الصوالين لديه في ضوابطها وشروطها وصورتها النمطية وكذلك اختلاف مشارب من يكتب عنها.
تعتبر المجالس للأسرة الحاكمة، والمجالس العائلية الأخرى، ومجالس المجتمع المحلي في الحارات والأحياء هي بداية الديوانيات في المملكة العربية السعودية لاسيما في طورها الثالث والذي بدأ بدخول الملك عبدالعزيز -رحمه الله- الرياض في ملحمة تاريخية لاستعادة ملك آبائه وأجداده عام 1319 هجري، وإن كانت هذه المجالس امتداد للمجالس في الأطوار السابقة للمملكة.
ومن الأمثلة على هذه المجالس -على سبيل التمثيل لا الحصر- التي أقيمت في الرياض بعد استعادتها، مجلس أحد وجهاء الرياض في حي دخنة حي العلماء والأمراء في وسط الرياض القديمة صالح بن عبدالله الحوطي، حيث كان له مجلس يومي بعد صلاة الفجر يستقبل فيه الناس من جميع شرائح المجتمع من الوجهاء والعلماء والأصدقاء، حيث كان يقوم بكتابة الوصايا والمبايعات والاستشارات وإصلاح ذات البين للناس تطوعاً وكسب ثقة المشايخ في ذلك الوقت، ويذكر حفيده محمد الحوطي: أنه شاهد عدداً من رجال الملك عبدالعزيز مثل موسى بن طياش وشاهد كذلك من الرواد المشاركين في استعادة الرياض الذين كانوا يترددون على مجلسه، وكذلك رأى عدداً من رجال أسرة آل الشيخ.
إن الناظر في عدد ممن كتب عن الديوانيات الثقافية والاجتماعية إنما انطلق من رؤاه الفردية والقائمة على الخبرات الشخصية، والرغبات الذاتية، مع الخلط القائم أحياناً بين الديوانيات الثقافية المسماة بالصوالين الثقافية والديوانيات الاجتماعية فلكل منهما صبغته التي تختلف عن الآخر.
تتنوع الديوانيات في صورها بين المجالس التقليدية والديوانيات الحديثة المتطورة وأخيراً الديوانيات التقنية، فمن ديوانيات النخب التي أسسها النخب لاستقطاب النخب فحسب وخصوصاً في المجالات الأدبية إلى الديوانيات التي أسسها رموز المجتمع لتخدم إما مكانتهم ووجاهتهم وإما تخصصاتهم كأفراد أو أسسوها لخدمة مجتمعاتهم.
كما تتعدد صور الديوانيات بحسب المجال الذي تخدمه، وبالنظر لما يقدم فيها وهي في الحقيقة تدور على عدد من الصور بالنظر لطبيعة نشاطها منها:
الديوانية الثقافية: الأدبية أو العلمية والديوانية الاجتماعية: الأسرية والعائلية والمجتمعية، والديوانية الاجتماعية الثقافية المتنوعة: التي تجمع بين الجوانب الثقافية والاجتماعية الأسرية المجتمعية.
تتميز الديوانيات بعدة جوانب، حيث يغلب عليها جانب العفوية في تأسيسها وتشغيلها ويدخل فيه كذلك جانب الوجاهة المجتمعية في صورتها الفردية، حيث تقوم على تأسيسها الرموز المجتمعية، وهنالك الديوانيات التي يغلب عليها الطابع التشاركي وليس الفردي، حيث تتبناها أسرة كاملة كونت لها ما يخدمها من الأفراد وتوفير الدعم المالي لها, وهنالك الديوانيات المؤسسية غير المرتبطة بالأفراد أو الأسر وإنما يقوم عليه جهات أو كيانات لتحقيق أهدافها.
وهذه الديوانيات لا تحتاج إلى رخص نظامية أو أنظمة تقوم بها ولا تنضوي تحت أي جهة رسمية، حيث يغلب على القائمين عليها أنهم من رموز المجتمع المعروفة بولائها والتي تسعى لخدمة وطنها ودعم مسيرته وبذل ما يخدمه.
من النماذج البارزة للديوانيات في هذا الوطن الكبير (ديوانية آل حسين التاريخية) في بلدة منفوحة التاريخية القديمة، حيث اكتسبت أهميتها وتميزها من عدة معايير مؤثرة، أولاً من حيث عمقها المكاني التاريخي في بلدة منفوحة التاريخية التي يمتد تاريخها إلى ما قبل الإسلام، وتكتسب الديوانية أهميتها كذلك من المعيار الزماني، حيث تعد من أقدم الديوانيات السعودية القائمة حالياً، حيث نشأت في حدود عام 1326 هجري بعد بدء توحيد المملكة عام 1319 هجري لأكثر من مائة عام، حيث تشرّفت بزيارة الملك المؤسس عبدالعزيز بن عبدالرحمن الفيصل آل سعود لها أثناء زيارته لبلدة منفوحة التاريخية والتي تقع جنوب مدينة الرياض حينها.
نشأت (ديوانية آل حسين التاريخية) على هيئة مجالس لكبار العائلة لاستقبال أبناء العائلة والضيوف والاجتماع على الخير وكانت عبارة عن مجلس للرجال ذي مساحة كبيرة مخصص لاستقبال الضيوف عامة من أهل البلدة أو القادمين من خارج المنطقة، يتم فيها مناقشة المستجدات والاهتمامات وتبادل الأحاديث والآراء حولها. والتي لا يزال عطاء هذه الديوانية ممتداً ومستمراً حتى وقتنا الحاضر، حيث يشرف عليها أبناء الأسرة بالتوارث.
تعتبر (ديوانية آل حسين التاريخية) من الديوانيات الأسرية وليس الفردية وقد تميزت ديوانية آل حسين بتنوعها الثقافي والاجتماعي والمجتمعي فيما تقدمه إضافة لقيامها بتكريم رواد الوطن في جميع التخصصات والمجالات ممن تركوا بصمتهم على أرض الوطن وأصبحت مقصداً للزوار والوفود الرسمية.
تعد (ديوانية آل حسن التاريخية) من الديوانيات الاجتماعية الثقافية المتنوعة العطاء ففي:
الجانب الثقافي (الاستضافات): تقدم نشاطها من خلال لقاء شهري باستضافة المتخصصين في التاريخ الوطني والمتخصصين في الطب والأدب والشعر وغيرها من الفنون.
وفي الجانب الاجتماعي: سواء الاجتماعي الأسري أو الاجتماعي المحلي والوطني، حيث تُقام المناسبات الاجتماعية الأسرية والوطنية وتكريم المتميزين والرواد.
وكذلك في جانب إقامة الشراكات مع مؤسسات القطاع الثالث من الجمعيات الخيرية ونحوها لإعانتها في تحقيق رسالتها من خلال تقديم مقر الديوانية وإمكاناتها المادية والبشرية في خدمة الجهات الخيرية والتطوعية.
ثالثاً: في جانب خدمة المجتمع: فقد تميزت وأبدعت في هذا الجانب بما لا يجاريها أي ديوانية أخرى وذلك من خلال التالي:
أولاً: جانب المبادرات المجتمعية:
- حيث تم تأسيس فريق كشفي خاص بالديوانية ويقوم بأدواره.
- تم تشكيل فرق تطوعية تساهم في فعاليات الوطن وخدمته.
وبذلك تعتبر ديوانية آل حسين التاريخية من الديوانيات المتميزة على مستوى الوطن، ويبرز تميزها في جانب لا يكاد يوجد في غيرها وهو جانب الاستدامة المالية الذي يساهم في تأدية رسالتها، حيث أنشأ القائمون عليها وقفاً خيرياً باسم (وقف ديوانية آل حسين التاريخية) أقامته الأسرة ليساهم في أداء الديوانية لرسالتها وتغطية أداء الديوانية لمبادراتها.
ومن الميزات الجميلة لهذه الديوانية الرائدة، المؤسسية في أداء رسالتها فهي قائمة على عمل مؤسسي غير فردي تقوم به الجهة الإشرافية للديوانية ممثلة حالياً في المستشار عبدالعزيز آل حسين، وفرق العمل التي تساهم في تأدية الديوانية رسالتها كل في تخصصه.
ومما يحسب للديوانية اهتمامها بالجانب الإعلامي في التواصل مع المجتمع وفي أداء رسالتها، حيث استقطبت فريقاً إعلامياً يقوم بهذا الدور في إبراز أنشطة الديوانية المرئية والمسموعة.
اكتسبت الديوانية ثقة المجتمع المحلي في منفوحة وامتد ذلك إلى الرياض ومن ثم إلى الوطن كله، حيث عملت على الاهتمام بالجانب التاريخي المتعلق بمنفوحة خصوصاً والوطن عموماً من خلال استضافة العديد من مؤرِّخي الوطن الذين ساهموا في ذلك.
أصبحت ديوانية آل حسين التاريخية حاضرة باستمرار في مناسبات الوطن وفعالياته وأفراحه وأتراحه، حيث تقدم خدماتها من خلال إتاحة مقر الديوانية لاستضافة الفعاليات الوطنية والفرق التطوعية والجمعيات الخيرية وتقديم الدعم والمؤازرة في خدمة ذوي الإعاقة وتمكينهم.
كما تساهم من خلال فرقها التطوعية في دعم ومؤازرة المبادرات الوطنية والمجتمعية، ومبادراتها في خدمة الوطن والمحافظة على مكتسباته ومنجزاته في الجوانب البيئية والثقافية ورسائلها التوعوية.
وأخيراً فهذا نموذج لديوانيات الوطن المتميزة التي تقدم رسالتها بكل فخر واعتزاز لتكون نموذجاً يقتدى به في جميع مدن ومحافظات وطننا المعطاء، والتي تحتاج من إعلام الوطن دعم مسيرتها الوطنية من خلال إبراز أنشطتها وحضور فعالياتها ونشر ثقافتها لدى رموز الوطن ليساهموا في تعزيز مسيرة الوطن الكبير.
وحديثنا عن هذا النموذج من ديوانيات الوطن لا يغفل غيرها من الديوانيات الثقافية والاجتماعية، التي أسهمت في إثراء المشهد الثقافي في وطننا الكبير، وتقديم المعرفة في مجالات مختلفة من العلوم والآداب والاجتماع والاقتصاد، بالإضافة إلى تعزيز ثقافة الحوار وتقريب وجهات النظر، وتكريم المبدعين، والتعريف بأعلام الفكر والأدب والثقافة، ومد الجسور بين المثقفين والمفكرين والأدباء، واستعراض القضايا الاجتماعية المعاصرة وإيجاد الحلول لها، وتسليط الضوء على النهضة السعودية في مختلف المجالات، فضلاً عن المشاركة الفاعلة في المناسبات الوطنية والعمل على الإفادة منها. ونذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: «ندوة الرفاعي» وهي لقاء أسبوعي كان يعقد في منزل الأديب عبدالعزيز الرفاعي في مدينة الرياض منذ مطلع الثمانينات الهجرية، ومنها كذلك سبتية الشيخ حمد الجاسر، وأحدية أبو عبدالرحمن الظاهري، وأحدية راشد المبارك، وأثنينية الذييب، وثلوثية السديري وثلوثية المشوح، وندوة أنور عشقي، وندوة الشيخ عبدالله بن عقيل، وثلوثية بامحسون، وثلوثية التويجري، وديوانية عبدالله الماضي، وندوة معتوق شلبي، وغيرها الكثير الكثير من الديوانيات التي يطول المقام بذكرها ويكفي من القلادة ما أحاط بالعنق.
** **
- محمد النجيفان