د. عيد بن مسعود الجهني
شهد 30 سبتمبر 1938 ما أطلق عليه معاهدة ميونخ بين كل من ألمانيا (النازية) وفرنسا وبريطانيا وإيطاليا، ولأن العالم كان قد خرج من حرب كونية مدمرة فإن الدول فرنسا، بريطانيا، إيطاليا ساورها الخوف حينذاك من اندلاع حرب عالمية جديدة.
لهذا خضعت لطلبات النازي هتلر التي أدت إلى تقسيم تشيكوسلوفاكيا بين كل من ألمانيا وبولندا والمجر.
جاء هذا الحدث التاريخي بعد أن دعت الدول الكبرى في القارة الأوربية إلى عقد مؤتمر لتسوية الأزمة التي خلقها ادلوف هتلر، وعقد المؤتمر في ميونخ وحضره رؤساء الوزراء في بريطانيا وفرنسا والنازي هتلر ورئيس وزراء إيطاليا، واستمر المؤتمر لمدة ثلاثة أيام كانت نتيجته كما نوهنا.
وإذا كان المؤتمر قصد منه تأكيد الأمن والاستقرار في القارة العجوز، لذا خرج من رحمه تلبية طلبات هتلر لكبح جماحه نحو الحرب بالسماح له باقتطاع أجزاء من دول مجاورة بحجة أن بعض السكان يتحدثون اللغة الألمانية، لكن الرجل الذي كان يشعر بقوة بلاده قرر أخذ الثأر لهزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الأولى 1914 - 1918، لم يكتف بالفريسة الأولى التي التهمها، بل استمر في تمدده نحو دول أخرى، فكان ذلك سبباً في اشتعال الحرب الكونية الثانية 1939 - 1945 عندما وجدت بريطانيا وفرنسا أن المهادنة مع النازي هتلر لن تجدي سبيلا.
ويأتي انعقاد مؤتمر ميونخ العام في شهر أبريل 2024 والعالم أجمع يواجه صراعات ونزاعات وحروباً شرسة في مناطق عديدة من العالم، بل أن تفاقم بعضها يجعل الوضع شبيها في مقدمات الحرب الكونية الثانية إلى حد كبير، ففي القارة الأوربية هناك الحرب الروسية الأوكرانية التي دخلت فيها محاور عدة فالدول الأوربية الكبرى ومعها الإمبراطورية الأمريكية وقفت ضد روسيا باعتبار أن الروس هم من بدأ الحرب، ففي هذا الدعم القوي يتحقق سباق في استعمال جميع الأسلحة المتطورة هو الغالب في المعركة الطاحنة.
وعلى الجانب الآخر استقطبت روسيا إلى جانبها كل من إيران وكوريا الشمالية وبقيت الصين تراقب الموقف بحذر وإن كانت صداقتها الأخرى مع الروس.
وبذا يتضح أن هناك محورين يدفعان بعجلة الحرب نحو الهاوية، وقد خرج من رحمها حرب مدمرة تمتد آثارها أقوى على اقتصادات العالم وعملاته واستثماراته لتخلق ركوداً اقتصادياً شبيهاً بكساد 1929 - 1933 الذي كان سبباً في اشتعال نيران الحرب العالمية الثانية.
وإذا كان المؤتمر قد ناقش بعمق تلك الحرب الروسية - الأوكرانية، لكنه لم يبلغ الثريا فقد عجز عن وقفها أو حتى فتح باب الحوار بين الدولتين المتجاورتين ليزداد عدد القتلى والجرحى والمعاقين وتدمير البنى التحتية وجميع عوامل الحياة.
أما موضوع الحرب العنصرية الفلسطينية التي تشنها إسرائيل على قطاع غزة والضفة الغربية، فإن المؤتمر لم يجعلها غائبة عن جدوله داعياً إلى تأكيد السلام والأمن ووقف إطلاق النار.
لكن هيهات فالدولة العبرية لم تلتفت إلى تلك الدعوة، واستمرت في مسيرة القتل الجماعي والتهجير الممنهج وقتل الأطفال والنساء وكبار السن وغيرهم، بل إن نتنياهو وزملائه لم يترددوا في إطلاق مسمى (الحيوانات) على أهل غزة، وهذا فعل شائن لم يعرفه العالم حتى في الحربين الكونيتين ولا يقول به إلا نتنياهو وزملائه أصحاب الجرم الكبير، ولعل التاريخ يسجل لأول مرة أن هذه التسمية (القذرة) تطلق على من يكافح دفاعا عن أرضه ضد مغتصبها المحتل.
وإذا كان المؤتمر في دورته الستين الذي شارك فيه عدد كبير من رؤساء دول وحكومات ووزراء ورؤساء منظمات دولية، ووضع جدول أعماله بدقة ليشمل قضايا رئيسية منها الحرب الروسية - الأوكرانية والتوتر في الشرق الأوسط وفي مقدمته حرب إسرائيل العنصرية ضد غزة والفلسطينيين والدور الذي تلعبه أوربا في العالم، وامتد جدول الأعمال ليشمل قضايا مهمة عديدة منها قضية المناخ وانعدام الأمن الغذائي.
إذا المؤتمر في فترة انعقاده من 16 - 18 فبراير هذا العام شهد مناقشات مهمة شملت التحديات الأمنية التي يشهدها العالم في خضم التوترات والصراعات والحروب وحالة عدم اليقين التي تمر بالاقتصاد العالمي، مما يمكن القول إن المنظومة الدولية أصبحت اليوم منقسمة على نفسها أكثر من أي وقت مضى من الحرب الكارثية الثانية، وهذا يمثّل خطراً محدقاً مما يجعل الأمر ينذر العديد من الدول التي تتعرض نظامها السياسي وعملتها إلى التهديد الخطير، الأمر الذي يمتد أثره إلى الجميع ليصبحوا على حافة الهاوية السياسية والاقتصادية.
ومع تقديرنا للدور المهم لمؤتمر ميونخ الذي حضره قادة وسياسيون كبار مهتمين بالأمن والسلام الدولي، الذي يشكل المؤتمر فرصة مهمة على المستوى العالمي، حيث من خلاله يتم بحث السياسات الأمنية على المستوى الدولي من خلال عدد كبير من ممثلي الحكومات وخبراء بالأمن لتبادل الآراء والمناقشات الهادفة والاستفادة من كل الآراء والمواقف لرسم خطوط حمراء لحل النزاعات والصراعات والحروب الدولية.
وتصدرت حرب روسيا وأوكرانيا وإسرائيل على غزة والفلسطينيين ونزاعات القرن الإفريقي مناقشات المؤتمر.
وبذا فإن حرب روسيا على أوكرانيا وحرب إسرائيل على غزة طبقاً للواقع الإستراتيجي السياسي والعسكري من الممكن وصفهما بأنهما الأكبر تهديداً للأمن على المستوى الدولي والشرق الأوسط.
لا شك أن للمؤتمر وقراراته والمسؤولين الذين حضروه أهمية في محاولة نشر الأمن والسلام والاستقرار الدولي، لكن هذا ليس (بيت القصيد)، فالعالم متجه نحو الهاوية في نزاعاته وصراعاته فحروبه التي تغذيها الدول الكبرى ومعها تنظيمات تشن حروب بالوكالة.
مؤتمر ميونخ ومؤتمر نيويورك وغيره من المؤتمرات خاصة مؤتمرات الكبار لمجموعة العشرين والست الكبار وغيرها من المؤتمرات صحيح أن أهدافها إقامة العدل والسلام الدوليين ودعم الاقتصاد الدولي خاصة قمم مجموعة العشرين التي تسيطر على أكثر من (85) في المئة من مجموع إجمالي الناتج الدولي، إلا أنها في مجموعها لم تمنع وقوع حرب أو نزاع أو صراع، الأماني لا تحقق عدلاً ولا سلاماً.
ويبقى الحديث الأهم أن المجتمع الدولي بدوله الـ(193) خاصة الدول الكبرى أمريكا، روسيا، الصين، بريطانيا، فرنسا أعضاء مجلس الأمن صاحبة النقض الفيتو هي التي تدير دفة الصراعات الدولية وهي بإمكانها قتل أي قرار لمجلس الأمن خاصة روسيا وأمريكا اللتين بحوزتهما أكثر من (15) ألف رأس نووي قادر على تدمير الكرة الأرضية (11) مرة.
أمريكا هي التي تعتبر إسرائيل طفلها المدلل، بل جزءاً منها وما قضية حرب الدولة العنصرية ضد الفلسطينيين إلا مثل حي فالسيد بايدن كان أول الزائرين الواصلين إلى تل أبيب للدعم والمؤازرة ووزير خارجيته شبه مقيم في إسرائيل، والدليل على ذلك أن أمريكا استعملت الفيتو ثلاث مرات ضد مشاريع أمام مجلس الأمن لوقف إطلاق النار في غزة، وما المشروع الذي قدمته الجزائر عن المجموعة العربية متضمناً الوقف الفوري لإطلاق النار إلا مثال على ازدواج المعايير لدى أمريكا، فجميع أعضاء مجلس الأمن وافقوا عليه إلا ماما أمريكا التي استعملت الفيتو ضد القرار.
هذا ما تفعله إحدى الدول الكبرى، ومن جانبها روسيا أغارت على جارتها أوكرانيا لكن الأخيرة وجدت في أمريكا وأوربا سنداً قوياً لها بالسلاح والعتاد.
لذا غزة المدمرة والتي لقيت قتلاً جماعياً وتهجيراً كاملاً وقتلاً شرساً للأطفال وقطعاً للمواد والغذاء والكهرباء والدواء، فلم تجد دعماً أو سنداً من أحد سوى الشجب والاستنكار، وسيبقى رجاؤهم الدعم من الله وهذا هو الذي مكنهم من الصمود كل هذه الشهور، عدد قليل منتصر على جمع غفير.
كل ذلك يحدث في عالم اليوم متجاهلاً للقانون الدولي العام والقانون الدولي الإنساني وقانون الحروب التي أصبحت أمام قوة البطش في ذمة التاريخ، فالكل مثلاً ينادي بتطبيق القانون الدولي وأخاه الإنساني مثلاً لكن ليس هناك من يسمع أو يجيب.
أما الأمم المتحدة بيت المنظومة الدولية التي قامت عام 1945 على أنقاض عصبة الأمم، فلا حيلة ولا قوة لها رغم ما يقوم به ابنها النشط من تقديم المبادرات الواحدة تلو الأخرى.
فكلها تتحطم ومعها مبادرات تقدمها دول عديدة منها الدول العربية لوقف الحرب مثلاً على غزة، لكن الدول الكبرى خاصة أمريكا بالمرصاد لكل قرار يخص فلسطين.
وبهذا فإن عدم احترام القانون الدولي والإنساني والأمم المتحدة وميثاقها التي أساس إقامة العدل والسلام والأمن ينذر بشر مستطير ينتظره العالم بطله الدول الكبرى، لذا ينطبق عليها يوماً المثل (على نفسها جنت براقش) كما حدث في الحربين المدمرتين السابقتين.
والله ولي التوفيق،،،
** **
- رئيس مركز الخليج العربي لدراسات واستشارات الطاقة