عبدالوهاب الفايز
ربما لأول مرة نرى ونسمع عن مشاكل للقطاع الخاص في صناعة الفضاء..
وهذا ما حدث الأسبوع الماضي حين ضربت الأرض، مساء الجمعة، عاصفة شمسية جيومغناطيسية صنفت على أنها (من المستوى الخامس على مقياس من 5 درجات، وهو مستوى يوصف بأنه «شديد)، وذلك للمرة الأولى منذ عام 2003، ونجمت من وصول سلسلة انبعاثات كتلية إكليلية من الشمس إلى الأرض.
وأبرز شركة خاصة تعرضت للمشاكل هي شركة «ستارلينك»، مزود خدمات الإنترنت عبر الأقمار الاصطناعية والتابعة لشركة الملياردير إيلون ماسك «سبيس إكس». يوم السبت ذكرت الشركة ان خدماتها تعرضت إلى اضطراب بسبب العاصفة الشمسية. وسبق ان خسر مشروع الفضاء سبيس اكس عشرات الأقمار الصناعية في عاصفة فضائية، مما أدى إلى تدمير الجزء الأكبر من الأسطول، الذي تم إطلاقه.
هذا الحدث الكوني وضعنا إزاء واقع جديد لما يعرف بـ:(اقتصاد الفضاء)، وهذا الاقتصاد يتضح الآن من استثمارات القطاع الخاص التي تتسابق عليه أكثر من استثمارات الحكومات. ويبلغ اقتصاد الفضاء ما يقارب 630 بليون دولار، ويتوقع أن يكون حجمه 2 تريليون دولار عام 2035، والقطاع ينمو بمعدل 9 % سنويا. وتم اطلاق 12 ألف قمر، والمخطط اطلاق 36 ألف قمر في السنوات المقبلة.
وثمة خيالات وأحلام للمستثمرين المغامرين تذهب بعيدا في مفهوم (التعدين الفضائي)، فالافكار والمشاريع تذهب إلى استخراج الموارد من الكويكبات والأجرام السماوية الأخرى، فهناك من يرى فرصة استثمارية للراغبين المغامرة في المجهول، والغريب أن الشركات التي تستكشف إمكانيات استخدام الموارد الفضائية تحظى باهتمام المستثمرين الذين يرون الإمكانات الهائلة لهذه الصناعة المستقبلية.
من هذا السباق الحالم.. تنمو القناعة لدى المستثمرين والحكومات حول مستقبل اقتصاد الفضاء وفرصه الاستثمارية المزدهرة، فالمجال يقف على أعتاب حقبة جديدة، حيث تعمل مشاريع القطاع الخاص والتقنيات الجديدة على تحديد مستقبل استكشاف الفضاء. في أكثر من 90 دولة تتطلع الشركات والمستثمرون إلى مجالات هذا الاقتصاد، وراينا بوادر مشاريع السياحة الفضائية، والشهية لتجارب الفضاء تتوسع، والمستثمرون يدعمون هذه المشاريع الواعدة بفتح الكون أمام جيل جديد من المسافرين إلى الفضاء!
والذي يتطور الآن هو خدمات الأقمار الصناعية التي تتيح الاتصالات عبر الأقمار الصناعية، وهذه تخدم المناطق النائية والمناطق الجبلية والبحار، وأيضا تقدم خدمات مراقبة التشوه البصري في المدن، وتساعد في تطبيق خدمات كود البناء في المدن، ومراقبة الاحتطاب والتصحر. والشركات التي تنشر مجموعات الأقمار الصناعية للاتصال العالمي تضع استثمارات كبيرة في سعيها إلى إحداث ثورة في شبكات الاتصالات وتوفير الوصول إلى الخدمات الرقمية في جميع أنحاء العالم، وهناك اكثر من 2 بليون إنسان لا تصلهم الإنترنت. كما أن التنافس يتسارع بين الشركات الخاصة على الاستثمار لتمويل البعثات القمرية، ومساعي تعدين الكويكبات، والخطط الطموحة لاستعمار المريخ.
إننا في عالم يتسابق إلى الفضاء في مدارته القريبة أو في أعماقه السحيقة.
الجميل أن بلادنا ليست بعيدة عن هذا السباق الكوني، بالذات استكشاف فرص الاستثمار في اقتصاد الفضاء. في لقاء (ديوانية كتاب الراي) الأسبوع الماضي مع الدكتور محمد التميمى محافظ هيئة الاتصالات والفضاء والتقنية، عرفنا الكثير، والمهم الذي يُطمئن على مستقبل اقتصاد الفضاء في بلادنا، فالمملكة وفي بضع سنوات دخلت بقوة لمضاعفة الجهود التي بذلت سابقا للوصول إلى أفضل التقنيات والممارسات في صناعة الفضاء.
وأبرز ما أشار إليه المحافظ هو العمل الُمركّز الذي يؤدي إلى (تعزيز مكانة المملكة لتكون مركزًا إقليميًا ودوليًا رائدًا في مجال علوم وتقنيات الفضاء)، كما نص عليه احد اهداف وكالة الفضاء السعودية. والجهود الوطنية التي يدعمها ويتابعها سمو الأمير محمد بن سلمان ولي العهد، يحفظه الله، تتسارع لتجهيز منظومة سعودية متكاملة لصناعة الفضاء للاستفادة من الابحاث العلمية ومن خدمات الاتصالات، وايضا حتى تتمكن بلادنا من الدخول في السباق على فرص الاستثمار في اقتصاد الفضاء، وهناك الكثير في جميع أنحاء العالم يعملون لاغتنام إمكانات هذه الصناعة التحويلية.
ومن الأمور التي تشكل تحديا كبيرا في اقتصاد الفضاء، وتقدم ايضا فرصة للاستثمار، هو (الحطام الفضائي)، أو الخردة الفضائية الناتجة عن مركبات إطلاق مهملة أو أجزاء من مركبة فضائية تسبح في الفضاء، أو بسبب انفجار في الفضاء، أو عندما تجري الدول تجارب صاروخية لتدمير أقمارها الصناعية بالصواريخ. التصدي لهذا ضروري وهذا التحدي الكبير يقدم الفرصة لايجاد شركات تتخصص في ازالة هذا الحطام، وإزالة الحطام ضروري لتأمين مستقبل اقتصاد الفضاء العالمي.
الإستراتيجية الوطنية للفضاء التي يجري العمل عليها تضع مسار خاص لجذب الاستثمارات وتمكين الشركات السعودية العاملة في صناعة الفضاء، ولبناء شركات جديدة. والاهم المفرح هو الحرص على بناء الكوادر البشرية الوطنية المتخصصة في علوم وتقنيات واقتصاد الفضاء، فلدينا أكثر من 500 طالب مبتعث لدراسة العلوم المرتبطة بالفضاء، وهذا أهم المكتسبات التي نجنيها.
وفي هذا الجانب أوضح المحافظ اهمية التركيز على إحداث الاستثارة العلمية في علوم الفضاء في التعليم المبكر. وهذا ضروري للدول التي ترغب الاستفادة من اقتصاد الفضاء، وهناك علاقة قوية بين تقدم الدول التقني وبين أبحاث الفضاء، فأغلب الابحاث المتقدمة نتجت من الابحاث في الفضاء. ولهذا الغرض تم التوجه لمواصلة ارسال رواد فضاء سعوديين إلى الفضاء، وبلادنا كان لها البداية المبكرة حين شارك الأمير سلطان بن سلمان كأول رائد فضاء عربي مسلم. وارسال الرواد للفضاء يحقق هدفا بعيد المدى وهو استقطاب الأجيال الجديدة للاهتمام بالعلوم والاختراعات، فرحلات الفضاء تثير الخيالات، وتبعث الشغف بالعلوم.
ولهذا تركز المملكة على بناء الموارد البشرية لأهمية دورها الكبير في استكشاف الفضاء والاقتصاد الفضائي، فنحتاج توفر المهارات المتخصصة والقوى العاملة لتطوير وتشغيل وصيانة تقنيات الفضاء والبنية التحتية. ونحتاجها في البحث والتصميم والابتكار حتى يتم التقدم في تكنولوجيا المركبات الفضائية وتدريب رواد الفضاء. بالإضافة إلى ذلك، تكمن الأهمية الاقتصادية للموارد البشرية في الفضاء عبر تعزيز التعاون بين العلماء والمهندسين وصانعي السياسات لدفع النمو والاستدامة وتسويق الصناعات الفضائية. كذلك الاستخدام الفعال للموارد البشرية، يمكن أن يؤدي إلى اكتشافات علمية وتقدم تكنولوجي وفرص اقتصادية نستفيد منها جميعاً.
يبدو ان بلادنا مقبلة على نقلة نوعية في اقتصاد الفضاء، فهناك الكثير من المعطيات الايجابية التي سوف نجنيها لكوادرنا البشرية الجديدة ولاقتصادنا. والسؤال الكبير: كيف نعظم العائد الاقتصادي من صناعة الفضاء؟