د. محمد بن إبراهيم الملحم
يمكن تقديم تعليق عام على إشكالية تعليق الأحسائيين على اللهجة من منظور سوسيولوجي يرتكز على تنوع اللهجات الأحسائية، وعلى الرغم أن كثيرين علقوا على هذا التنوع في تفاصيله الدقيقة ولكني سأنوه إلى تنوع في مستوى أعلى وهو ذلك الذي يقوم على بيئة العمل، فالأحساء القديمة يمكن تمييز فئتين رئيستين فيها: هي فئة الفلاحين وسكان القرى من جهة وفئة العاملين في المجالات الأخرى وسكان المدينة من جهة أخرى, فالفئة الأولى تظهر فيها بوضوح اللهجة الأحسائية المتضمنة هاء السكت الشهيرة اللاحقة لتعبيره الملكية (على نحو مالية، غرفتيه.. الخ) كما يشتد فيها ظهور حركة الضمة في غير محلها على نحو نطق «ماليه» بلفظ «موليوه» وكذلك «غرفتيه» تنطق «غورفتيوه» أو مثلاً لفظة «شارع» تنطق «شورع»، وبالمناسبة فهذه تمثل سمة مشتركة بين اللهجة الأحسائية والبحرينية, وأما الفئة الثانية (سكان المدينة) فعلى الرغم أن هذه الاستخدامات اللفظية تظهر أحياناً في ألسنتهم لكنها أقل ظهوراً، سواء في حدتها أو في تكرارها وانتشارها عبر أغلب المفردات، وربما يعود ذلك لاختلاط سكان المدينة بغيرهم حيث إنه من المعروف منذ القدم أن للأحساء جاذبية لكثير من الناس من مختلف مناطق السعودية وخاصة نجد للاستقرار فيها لما تميزت به من الأمان والتجارة وتوفر وسائل المعيشة والاستقرار السياسي، ولذلك استقرت بها كثير من العوائل النجدية وأصبحت أحسائية، وأغلب هؤلاء عملوا في التجارة وتملك النخيل، وهذا الاختلاط كان من شأنه أن خفف حدة اللهجة الأحسائية القحة في مناطق استقرار هؤلاء القادمين من خارجها والتي هي غالباً المدينة ولذلك برزت نسخة مخففة من اللهجة الأحسائية بينما حافظ الفلاحون وأهل القرى على نسخة لهجتهم القديمة بكل سماتها التي قدمناها آنفاً، وهي في الواقع نسخة غريبة على الأذن السعودية خارج الأحساء ولذلك فإن الفرد الأحسائي المعاصر تجنب استخدام لغته القحة خارج بيئتها وحاول أن يستعرض اللهجة الأحسائية الخفيفة أو حتى لهجة «سعودية» بيضاء يفهمها الجميع، وهذا الهروب من لهجة قد تكون محل تندر جعل كثيرين من متحدثي نسخة اللهجة الأحسائية الخفيفة ينظرون إلى أن المسلسل والذي استخدم نسخة اللهجة الأحسائية القديمة القحة لا يعبر عن الأحساء وإنما عن جزء منها، وهذه الإشكالية لا يمكن حلها أبداً بسبب طبيعة التنوع الأحسائي الذي يصعب فيه الالتقاء مع جميع الرغبات والتفضيلات، لا سيما أهناك فئة كبيرة اليوم لا يزال لسانها متمسكاً بهذه اللهجة.
جانب آخر هو الاختلاف المذهبي في الأحساء، فحينما كانت القصة حول صناعة وتجارة البشت، فمن المعروف أن أبطال الصنعة في هذا المجال هم من أتباع المذهب الشيعي، والذي لم يجد المسلسل غضاضة في التصريح به حين قدم معالم شيعية كالحسينية والملا فبيئة القصة هي في هذا الجو، ومن حق شيعة الأحساء أن يتحدثوا عن جانب اجتماعي في حياتهم يمثلهم في المقام الأول، ولكنه أيضاً عكس كثيراً من الجوانب الاجتماعية والبيئية التي يشتركون فيها مع إخوانهم السّنة الذين يجاورونهم في البيت والنخل والمتجر ويتعايشون معاً مثل عادات الزواج وتجهيزات رحلات الحج وتركيبة البيت والشارع وطريقة التعامل اليومي والمحطات التاريخية مثل أرامكو ومصنع النسيج، وغير ذلك من الملامح، ولهذا فقد احتفل الجميع بالمسلسل، وبقيت أصوات متحفظة تطلب الكمال تقول إن المسلسل لا يعبر عن الأحساء بكاملها، وهذا أمر لم يدعيه صانعو المسلسل لأنه ببساطة يصعب لبلدة شديدة التنوع كالأحساء أن يمثلها عمل فني واحد، تصور معي مثلاً لو كانت قصة هذا المسلسل عن أهل الكوت من السنة فلن يكون معبراً عن كل أهل الأحساء لأنه تجاوز الشيعة من جهة وأهل النعاثل والمبرز من جهة أخرى، وكذلك لن يكون معبراً عن حياة أهل القرية أو البادية الأحسائية، فلكل منهم ملامح مختلفة عن الآخر، فهي إذن جدلية لا تنتهي، وأنوه للمشاهد غير الأحسائي أن استخدام اللهجة الأحسائية القديمة لبيئة تمثل الفئة الشيعية الموقرة في الأحساء هو مطابق للواقع إذ يحتفظ كثير من جيراننا شيعة الأحساء باللهجة القديمة أكثر من غيرهم فكان ذلك واقعياً جداً.
ويضاف إلى ما سبق أن التقيد باللهجة العامية كان ضرورياً لهذا العمل لأن قصته لا تتكلم عن الفئة المثقفة أو المتعلمة بالأحساء، وهي موجودة بالطبع وقت الملك فيصل، ولكنها تتكلم عن فئة الحرفيين، وهؤلاء غالباً لم يذهبوا للمدارس (أو لم يكملوا تعليمهم لمستويات أعلى) ولم يختلطوا بغير أبناء بيئتهم ولذلك فإن المفردات المستقاة من مناهج التعليم أو الإعلام لم تدخل عليهم ولا زال لسانهم على السليقة الأحسائية الأصيلة، وهذا ما برر كثيراً من الانتقاد على عدم إتقان اللهجة وتقديمها بما يتناسب مع الاجتهاد الذي حدث في الجانب المكاني وبيئة القصة، ومع أن أسماء طواقم العمل تفيد أن هناك مجموعة عملت على مراجعة اللهجة إلا أن هناك كثيراً من الهِنات كان ينبغي تلافيها خاصة لعمل ضخم مثل هذا، ولن أتمكن من استعراضها جميعاً هنا لإظهار الجانب الكمي ولكن أقدم عينات منها ففي مشهد اعتذار فاطمة من أبيها أبوعيسى تقول له (آسفة) وهي مفردة حديثة كما أن أبوعيسى بعدها بقليل يمد لزوجته زلابيا ويقول لها «جربيه» وهي كلمة عصرية جداً جداً بل هي من مفردات الجيل الحالي تماماً حيث هي ترجمة مباشرة ل Try it! وأحدهم يقول ودي تكلم بورويشد. فيرد عليه الآخر: بخصوص؟ فيقول بخصوص كذا وكذا. بينما لا يستخدم الحرفيون البسطاء مفردة «بخصوص» ذلك الوقت وإنما كان يجب أن تكون (وشو عنه؟) كما أن فرحان يقول رحت البحرين ودخلت السينِما (بكسر النون) وهي لفظة حديثة جداً، بينما الأحسائيون ذلك الوقت يقولونها «السينُمه» بل بعضهم يحرّفها إلى «السيلُمه» ويقول أبو فرحان لأحمد (روح جيب الدواء) وهي لهجة دمامية بينما اللهجة الأحسائية تكون (رح جب الدوء) حيث ستتغير كل الكلمات ف «روح» تكون «رح» و»جيب» تكون «جب» و»الدواء» تكون بدون مَدٍّ، وحتى لو قيلت كما هي بالمد فلا توضع فتحة على الدال كما هي في الفصحى أو اللهجة السعودية البيضاء (المشتقة من الحجازية) وإنما تكون بالضم «الدُّوا» وبدون الهمزة، وهذه فروقات قد يظن البعض أنها يسيرة إلا أنها في أذن ابن الأحساء كبيرة جداً ولا تعكس لهجتهم الأصيلة بكل المقاييس، ومع اقتراب اللهجة الأحسائية من البحرينية إلا أن لكل منهما مفرداتها وتعابيرها الخاصة، فعندما يقول أبوفرحان لابنه «تحمّل بروحك» فهذا تعبير بحريني بينما هو بالأحسائية «دار على نفسك»، وبالمناسبة فقد تكررت «تحمل بروحك» كثيراً في المسلسل! لقد استمتع أغلب السعوديين بلمسلسل واكتشفوا لهجته الأحسائية وربما أعجبتهم أيضاً، ولكن الأحسائيين انتابهم شيء من الإزعاج لأن أذنهم ميزت افتعال اللهجة بسهولة في عدد لا بأس به من المشاهد غير الموفقة «لهجاتياً» بينما هم يتمنون أن تقدم لهجتهم على سليقتها وأصولها في كامل المسلسل ليستحق أن يكون أحسائياً بامتياز.