د. جمال الراوي
الشخصية المملة ظاهرة لا تخلو منها مجتمعاتنا ومجالسنا، هي شخصية لها ثقالة في الروح والنفس، تنشر الضيق والاستياء والامتعاض في أي مجلس أو اجتماع تدخل إليه، يتضايق الناس من مصاحبتها، ويصفونها بأنها مملة، مضجرة، ثقيلة الروح، طفيلية؛ فيتجنبون معاشرتها والجلوس معها، لأنها تشيع الجفوة والنفور، وهي شخصية مملة لامتلاكها سجايا وصفات في طبعها، أو أن الأمر يعود إلى تنافر قديم في «عالم الأرواح»؛ فالاختلاف في «عالم الأرواح» ينعكس إلى تنافر في الدنيا، كل نفس بشرية تجد - بين البشر - شبيهة لها وقرينة، تتوافق معها وتتفق، لأنها من شاكلتها وطبعها؛ فتجمعهما الصحبة والمودة، بينما تنفر من كل روح تجد فيها التباين عن طبيعتها والاختلاف في طباعها، كما ورد في الحديث الشريف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: «الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف» (صحيح مسلم).
وللأسف الشديد؛ ظاهرة الشخصية المملة منتشرة، كثيرًا ما تجلب على المرء عبئًا شديدًا؛ فلا يستطيع -في كثير من الأحيان- الخلاص منها وتفاديها، هي قد تكون زائرًا ثقيل الظل، يأتي في أوقات حرجة، يفرض نفسه، ويضع كل أثقال روحه على أهل البيت، يريد أن تفتح له القلوب كما فتحت له الأبواب، ثم يواصل ثقالته، لا يترك مقامه حتى يفرغ شحنته فيهم، لا يدري بأن للبيوت حرمات، وأنها سكن ومقر ومهجع، يأوي إليها الناس ويفيئون لإراحة أعصابهم، حتى يأمنوا على أنفسهم، ويحفظوا عوراتهم، وأنه لا يحق لأي مخلوق استباحته أو الولوج إليه إلا باستئذان، وفي أوقاته ومواعيده المريحة لأهلها، والله تعالى يقول: {وَإِن قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ} (النور:28)؛ فللناس ظروفهم وأحوالهم داخل بيوتهم، ولهم أعذارهم وأسرارهم، ولا يجوز لغيرهم أن يأتيهم إن كانوا غير مستعدين ولا جاهزين لاستقباله؛ فالأبواب المؤصدة وراءها قلوب مؤصدة، لا تفتح إلا في أوانها.
والشخصية المملة ليست ضيفًا ثقيلًا فحسب، بل هي كل إنسان يحمل معه سلبيته، ينشر الكآبة والأسى في المجالس واللقاءات، يتحدث بإسهاب عن مشاكله وشكاويه، لا يدع فرصة إلا ويحاول جذب انتباه الآخرين إلى ما يعانيه من مصاعب في عمله أو في بيته، الكآبة ترتسم على محياه، والغمة تملأ وجهه، لا تعرف البسمة طريقًا إليه، يسهب في ذكر همومه وهواجسه وحظه المنكود، يريد من الآخرين أن يشاركوه فيها، كلما أراد أحدهم صرفه، عاد يتحدث عنها، لا يدري بأنه لن يطول به المقام، حتى ينفر الآخرون منه، ثم يحاولون تجنبه والالتقاء به، لأنه يعرفونه ذا طبيعة سوداوية، لا يريدونه أن تقتلهم أوجاعه.
والشخصية المملة، هي كل إنسان ثرثار، يتصدر المجالس ليتحدث عن نفسه وعن منجزاته، يبحث عن الإعجاب والشهرة لنفسه، وكثيرًا ما يصادفنا هؤلاء الذين يجيدون الشرح والإسهاب، ممن لديهم ملكة الحديث والكلام، وقد وجدت هذه الصفة لدى البعض، ممن لا يدعون لأحد الحديث في المجالس، يبدؤون الوعظ والإرشاد بإسهاب ممل، لا يقبلون أن يقاطعهم أحد، يريدون من الآخرين الإصغاء لهم فحسب؛ فالأخذ والعطاء من أدب النبوة، فالرسول صلى الله عليه وسلم كان يصغي جيدًا لمحدثه، يعطيه الفرصة حتى يأخذ دوره، وقد ورد عن أنس -رضي الله عنه- عن رسول صلى الله عليه وسلم: «كان إذا لقيه أحد من أصحابه فقام معه، قام معه فلم ينصرف حتى يكون الرجل هو الذي ينصرف عنه، وإذا لقيه أحد من أصحابه فتناول يده ناوله إياها فلم ينزع يده منه حتى يكون الرجل هو الذي ينزع يده منه، وإذا لقي أحدًا من أصحابه فتناول أذنه, ناوله إياها، ثم لم ينزعها حتى يكون الرجل هو الذي ينزعها عنه» (صحيح الجامع للألباني).
والشخصية المملة لا تملك «حس الفكاهة»، حياتها كلها جد وعبوس وقنوط، وكثيرًا ما تعترضنا مشاكل ومصاعب في العمل؛ فيكون من بيننا زملاء لا يمتلكون خاصية الفكاهة وروح الدعابة، ممن يبعثون في أنفسنا روح التشاؤم والسوداوية، لأنهم من ذوي التطير والشؤم، يعطون للأحداث أبعادًا قاتمة؛ فيشيعون الرهبة والخوف فيما بيننا، ويغلقون أبواب الأمل والخير... ومن -خلال تجاربي الشخصية- صادفت بعضًا من هؤلاء، ممن لا ترتاح لهم النفس، لأنهم كثيرو التذمر والشكوى، لا يرون سوى الجزء الفارغ من الكوب، لا يعرفون -في قاموسهم- حسن الظن، يرجحون جانب الشر على جانب الخير؛ فليس هناك أريح للقلوب من حسن الظن، فالخواطر والهموم والأفكار السوداوية تتعب العقل، وتؤذي الجسد، وتكدر الخاطر.
والشخصية المملة، قد تكون منافقة مداهنة، فاقدة للحمية والغيرة، تجدها تابعة خانعة، تلهث وراء مصالحها ومكتسباتها، تقدس أصحاب القوة والجبروت، تريد السلامة لنفسها، أو أنها تردد أفكارًا سيئة، تدافع عنها وتروج لها، جعلت من نفسها بوقًا، وإمعة لا تثبت على شيء.. وهذه الشخصية قد لا تكون إنسانًا، وتكون قناة تلفزيونية تروج لتبجيل دولة أو للدعاية لزعيم، فينفر الناس منها ويهجرونها، أو تكون موقعًا إلكترونيًا، يبث أفكارًا رديئة، وينشر عقائد باطلة؛ فينصرف الناس عنه، يحذرون بعضهم منه، وهذه -للأسف- من إحدى آفات هذا العصر المليء بمثل هذه القنوات والمواقع، وقد امتلأت حياة الناس بهذا الصخب والضوضاء؛ فكثرت الأقاويل والأباطيل والافتراءات، لا يدري المشرفون عليها بأن الأمر سوف يرتد عليهم طال الزمن أو قصر، والله تعالى يقول: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ} (الرعد:17)؛ فالتزييف والبهتان والافتراء يطفو على السطح، ينتفش ويعلو زبده، لكنه سرعان ما يذهب جفاءً، ليظهر من تحته سطح الماء النقي.
والشخصية المملة، قد تكون إنسانًا غير مهذب، لا يحترم الآخرين، جعل من السخرية والاستهزاء وسيلته في القدح والتقريع، كثير الانتقاد والاعتراض، لا يبالي بآراء الآخرين، يسفهها، ويجعل منها مادة للتهكم والهزؤ، تجده -في الوقت نفسه- يراقب حركات الآخرين وسكناتهم، يعلق على كلام الحاضرين، ويرتكس بطريقة ساخرة، وهذا قد يكون حال بعض المتنطعين والمتدينين، ممن جعلوا أنفسهم رقيبًا على لباس الناس وكلامهم، يحاول أحدهم -في كل مناسبة- انتقاد أحد الحاضرين والتشهير به، يوجه مواعظه وإرشاداته بطريقة غير مهذبة ولا لائقة، جعل من نفسه وصيًا على الناس، وهذا من العجب، وهو من باطن الإثم، الذي لا يراه الناس، لأنه من تعظيم الذات، ومن الامتلاء والغرور، يظن المصاب به بأنه أوتي من الهداية والتقوى والصلاح ما لا يأتي به أحد غيره.