د. عبدالحق عزوزي
يعتبر الاستثمار في الإنسان سبيلاً وحيداً لتحقيق التنمية الاقتصادية وبناء الأوطان... فالشعوب لا تتطور إلا بالاستثمار في الإنسان، والاستثمار في الإنسان يعني إيجاد أرضيات صلبة لتعليم وتغذية عقول الأجيال بالعلم الصحيح والقواعد المتينة التي تبني وتطور، وبإعداد مدارس القرن الثاني والعشرين وجامعات القرن الثالث والعشرين، والابتعاد عن الأدوات والمناهج الخاطئة التي استعملتها بعض الدول العربية منذ أزيد من ستة عقود ولم تؤت أكلها ولن تؤتي أكلها مادامت هناك نفس المسببات ونفس العقليات؛ فالمطلوب من المرحلة كما كتبنا ذلك مراراً هو نوع من الزلزال الناعم الذي أسميه «بالدمار الخلاق» والاستغناء عن البذلة المرقعة القديمة وخياطة بذلة جديدة تعفي الجميع من كل مساوئ الأولى؛ وهذا يجب أن يطال الاقتصاد والتربية والتعليم والمؤسسات والوظائف والنفقات العمومية والعقليات... فالاستثمار في الإنسان هو الذي يمكّن من تطور الإنسانية وخدمة المجتمع، وتفادي المعيقات التي تمنع من تحقيق مستقبل أفضل وبلورة الحلول لعيش أرغد...
نقول دائماً لطلبتنا في الجامعات إن غرض كل علم كيفما كان نوعه هو تنمية المجتمع، فمهمة الباحث الأولى هي كيف يمكن أن يدلي بدلوه في تحقيق التنمية والنماء داخل المجتمع؛ ونجد في الولايات المتحدة الأمريكية خلافاً لأوروبا والقارات الأخرى، أن هذا التواصل بين الباحث والمجتمع هو تواصل الروح بالجسد وتصرف عليه الملايين من الدولارات، كما أن عملية تنقيط الأساتذة والزيادة في رواتبهم تتم أكثرها من خلال تقييم اللجان الدقيقة في مدى مساهمة الأستاذ الجامعي ليس فقط في عمليات التلقين والتدريس ولكن في عمليات البحث والتأليف، وليس كل التأليف ولكن تلك التي لها صلة مباشرة في التأثير على المجتمع....
إن الاستثمار في الإنسان هو الذي يساهم في عملية التنمية، وهو الذي مكّن دولاً مثل أمريكا من الحصول على جل جوائز نوبل وفي كل المجالات، وعلى التأثير الإيجابي على صُناع القرار في التأصيل لسياسات عمومية رائدة، بل ومكنت دولاً لم تكن تعرف جامعات حديثة قبل نهاية الحرب العالمية الثانية مثل سنغافورة إلى أعلى مراتب التقدم والرخاء لشعوبها. فسنغافورة عندما حصلت على استقلالها عام 1965 كان نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي نحو 500 دولار، وكانت واحدة من أفقر المناطق الآسيوية ولكن في عام 2014 تضاعف الناتج المحلي الإجمالي مائة مرة ليصل إلى ما يزيد على 50 ألف دولار لتلحق بركب دول العالم المتقدم؛ ولا غرو أن الاستثمار الأمثل في الإنسان كان هو السبب من وراء ذلك.
وأنا أكتب هذا الكلام، أستحضر قصة نجاح السيد إيلون ماسك الذي يتحدث عنه الإعلام الدولي بدون استثناء.... هذا الرجل هو صاحب شركة سبايس إكس؛ وهو مهندس ومخترع خارج العادة. وُلد في جنوب إفريقيا عام 1971، ثم انتقل للعيش في أمريكا وأصبح مليونيراً عندما كان في العشرينيات من عمره حين باع شركته الناشئة Zip2 إلى شركة Compaq للحواسيب، وحقق المزيد من النجاح بتأسيسه شركة أيكس دوت كوم عام1999، وشركة سبيس إيكس عام 2002، وشركة تيسلا في 2003. تصدر ماسك عناوين الأخبار في عام 2012 حين أطلقت شركة سبيس إيكس صاروخاً فضائياً أرسل أول مركبة تجارية لمحطة الفضاء الدولية، وفي عام 2016 ملأ معرض أعماله بصور المدينة الشمسية سولار سيتي، ورسخ وجوده على عرش القادة الصناعيين. المهم عندي أنه وفي سن العاشرة بدأ إيلون بتطوير نفسه تباعاً، فشرع بتنمية قدرته على استخدام الحاسوب وتعلم لغات البرمجة وقد نجح بالفعل، حيث صنع أول برنامج قابل للبيع -قام بتصميم لعبة سماها بلاستر.
وفي عام 1989 عندما بلغ السابعة عشرة انتقل إلى كندا لارتياد جامعة كوين وهرباً من الخدمة العسكرية الإلزامية في الجيش الجنوب إفريقي، وفي 1992 غادر كندا ليدرس الفيزياء وإدارة الأعمال في جامعة بنسلفانيا، وبالفعل فقد حصل على شهادة في الاقتصاد ثم أكمل دراسته للحصول على درجة بكالوريوس ثانية في الفيزياء....
المهم من هاته المقالة التي أوجهها خاصة لشبابنا هو أن الطموح والتفاتي في العمل وتنمية القدرات والثقة في النفس هي مفتاح النجاح؛ ولنا في مسيرة حياة ماسك أفضل مثال... وأنا أتابع مسيرته، وجدته أنه يتغاضى عن تعليم أبنائه الصغار في المؤسسات التعليمية الأمريكية، لأنها في نظره لا تشجع المهارات ولا تخلق الإبداع في عقول الأطفال، لذا بدأ في رسم خريطة تعليمية خاصة لهم!!!