أ.د.عبدالله بن أحمد الفيفي
- 1 -
إذا كانت دُوَلٌ كثيرةٌ في العالم العَرَبي (كمصر، وسورية، والعراق، والأردن، والسودان) قد أقامت مجامع للُّغة العَرَبيَّة منذ عشرات السنين، وإذا كانت دُوَل العالم الحيَّة جميعها تقيم مجامع أو مراكز للُّغة والترجمة منذ تأسيسها، فإنَّ طرح بعض الناس التساؤل عن مَدَى ضرورة تأسيس مَجْمَع لُغويٍّ في بلادنا، بعد كلِّ ذلك، يبدو سؤالًا استفزازيًّا. ذلك أن المملكة هي قلب العُروبة، وكانت بدهيَّات الأشياء تفترض أن يقوم مَجْمَعٌ للُّغة العَرَبيَّة فيها قبل أيَّة دولة عَرَبيَّة أخرى، كما قام فيها مَجْمَعٌ للفقه الإسلامي، ومَجْمَعٌ للمصحف الشريف. السؤال عن ضرورة ذلك هو بمثابة سؤالٍ عن: ضرورة اللُّغة العَرَبيَّة اليوم؟ ولاسيما في هذا الوقت الذي تشهد العَرَبيَّة هجمتين شرستين من اللُّغات الأجنبيَّة واللهجات العامِّيَّة، تريدان أن تستأثرا بالحياة والثقافة والعلوم، فتذهب الفصحى بينهما أدراج الأسئلة والتردُّد. فمثلًا، لقد فوجئ الحفيُّون بشأن العَرَبيَّة ودعم مواكبتها العصر- وبعد ردح طال من الحُلم بإنشاء مَجْمَعٍ واحدٍ للُّغة العَرَبيَّة في الجزيرة العَرَبيَّة- بافتتاح القرن الحادي والعشرين بتدشين فضائيَّات شتَّى للعامِّيَّات، وابتكار مهرجانات بعرض العالم العَرَبي وطوله، ومسابقات تنهض على ما يُعادل ميزانيَّات دُوَل، من أجل الدوارج، كما فوجئوا على الجبهة الأخرى بالتوجُّه إلى تعليم الإنجليزيَّة وغيرها منذ مراحل الطفولة المبكِّرة، في حين ما زال السؤال يُطرَح منذ عقود طويلة عن «مدى ضرورة تأسيس مَجْمَع للُّغة العَرَبيَّة في جزيرة العَرَب»! يأتي هذا على الرغم ممَّا تُصدِره المؤتمرات العَرَبيَّة والقِمم السياسيَّة من توصيات بحماية اللِّسان العَرَبي! وكيف سيُحمى شيءٌ دون إيجاد آليَّات عمليَّة ومؤسَّسات جادَّة لتحقيق ذلك؟!
لم يكن هنالك، إذن، من أسبابٍ مقنعةٍ للتأخُّر في إنشاء مَجْمَعٍ للُّغة العَرَبيَّة في بلادها. ولقد كان كثيرٌ من علماء اللُّغة في المملكة أعضاء فاعلين في مجامع اللُّغة العَرَبيَّة في الدُّوَل العَرَبيَّة، وكان بلدهم أولى بهم؟ على أنه ظلَّ المؤمَّل أن ينهض مَجْمَعنا المنشود على أُسسٍ جديدة، وبقُدرات تتناسب مع أهميَّته، ومكانه، ومكانته، وما تُعقَد عليه من الطموحات، وأن يفيد من خبرات المجامع التي سبقته في هذا المضمار، كيلا يكون وجوده كعدمه. ذلك أنَّ الجدليَّة السائدة تقول: إنِّ مجامع اللُّغة العَرَبيَّة على كثرتها واختلافها قد فشلت في تحقيق أهدافها، فلماذا نكرِّر التجربة؟ وإنْ نحن أحسنَّا الظن بهذه الحُجَّة، ولم نَرَها من قبيل الحقِّ الذي يُراد به باطل، فإنَّها تنطلق من منطلقات مغلوطة. ذلك أنَّ فشل تجربة لا يعني الحُكم بالفشل الحتميِّ، بل تجب دراسة أسباب الفشل. على أنه ينبغي الاعتراف هنا أنَّ المجامع العَرَبيَّة واقعة بين طائفتين، أولاهما ترى العَرَبيَّة ما قاله الأوائل فقط، ولا زيادة عليه لمستزيد، وكلُّ مغايرٍ لما فاهوا به انحرافٌ سلبي، والطائفة الأخرى ترى الإبداع اللُّغوي يتعارض مع مشاريع تلك المجامع! ولا تدري أيَّ إبداعٍ لُغويٍّ متعارضٍ مع مشاريع المجامع، يشير إليه هؤلاء؟ وبصفةٍ عامَّة، كثيرًا ما يتناسى العامَّة جهود المجامع في خدمة العَرَبيَّة وتراثها، ولا يرون فيها إلَّا السلبيَّات والنقائص، محمِّلين فشلها عليها، وفوقه فشل غيرها من الجهات التنفيذيَّة لقراراتها، أو بالأصح المستخفَّة بتلك القرارات.
إنَّ أهداف المجامع اللُّغويَّة ومشاريعها معروفة: من خدمة العَرَبيَّة، وتعزيز سيادتها، والحرص على سلامتها، وتعميمها ونشرها، والسعي إلى تطوير وسائل تعليمها، وضبط استعمالاتها، وتوحيد مصطلحاتها العِلميَّة والفنِّيَّة، وإحلالها تدريجيًّا محلَّ الأجنبيِّ الشائع، في المجتمع والأوساط العِلميَّة والثقافيَّة، وإيجاد البدائل عمَّا يَجِدُّ من مصطلحات واستعمالات، فضلًا عن إحياء التراث وتحقيقه. كما أنَّ من أهمِّ ما يُنتظر أن ينهض به مَجْمَع (فاعل) للُّغة العَرَبيَّة أن يكون أحد السُّبل إلى التعريب والترجمة، والتعليم الجامعي باللُّغة العَرَبيَّة. وذلك ما تفعله كلُّ أُمم الأرض الحيَّة، التي تُنفِق على الترجمة ونقل المعارف إلى لُغاتها، وتوطين التقنية في بلدانها، بسخاء غير محدود، مراهنةً على هذا النهج في بناء مستقبلها. غير أنَّ دَور المجامع لن يتمَّ ما لم تلتزم وزارات التربية والتعليم، ودُور التعليم المختلفة، والإعلام، والجهات الثقافية، والوزارات والهيئات العامَّة، وغيرها، بتنفيذ ما يُصدِره المَجْمَع من قرارات. فالعمليَّة تكامليَّة، وليست تَرَفًا لُغويًّا لا يعني سوى شيوخ المجامع. ويستدعي ذلك إلزام الجهات المعنيَّة بما يَصدر عن المَجْمَع من قرارات، ومتابعة تنفيذها، وتذليل الصعوبات التي تُواجه ذل ك، وتقييم مستوى الأداء في هذا الأمر. وهذا يُعَدُّ من الواجبات الملقاة على العاملين في الأجهزة المختلفة، كلٍّ في مجال اختصاصه، مع ما يُفترض أن يترتَّب على مخالفة هذا الالتزام من محاسبة المخالف.
هذا، ولقد كان صدر عن (مجلس الشورى)، منذ دورته الرابعة، نظامٌ مفصَّل لإنشاء (مَجْمَع اللُّغة العَرَبيَّة) في المملكة، لكنه ظلَّ رهين التسويف. أما وقد تحقَّق قيام المَجْمَع، فقد بات المؤمَّل اليوم أن ينهض على أُسُسٍ نوعيَّة، وبقُدرات تتناسب مع أهميَّته، وما تُعقَد عليه من آمالٍ وتطلُّعات، وأن يُفيد من خبرات المجامع التي سبقت في هذا المضمار. وبحسب نعت المَجْمَع بـ«العالمي»، تبدو ثمَّة رؤية- نأمل أن تتحقَّق- في ربط اللُّغة العَرَبيَّة بالعالَم، من خلال التعريب والترجمة، ومن خلال إعطاء المَجْمَع بُعدًا عالميًّا، بوصف العَرَبيَّة لُغةً عالميَّة. وكذا فإنَّ هذا الوصف يوحي بالرغبة في تجاوز بعض العثرات في المجامع الأخرى. وهذان الأمران (التعريب والتجاوز) هما ما طالبنا به وتطلعنا إليه طويلًا. فأن تصل متأخِّرًا، ولكن بطموح أعلى من المتقدِّمين، هو ما يغفر تأخُّرك، بل يجعل له معنى متجاوزًا. وسيبقى أن تتلو خطوة الاحتفاء بالحُلم خطوة التخطيط العِلمي لتحقيق الحُلم، على أسس تضمن العطاء والاستمرار والسعي إلى الإتيان بما لم يستطعه الأوائل.
- 2 -
إنَّ عالميَّة المَجْمَع مكتسبةٌ من عالميَّة اللُّغة. وهنا قد يتبادر التساؤل عن المعطيات التي تُحدِّد عالميَّة اللُّغة؟ فالحق أنَّ أهل اللُّغة هم الذين يفرضون عالميَّتها؛ بعطائهم الحضاري، وبمنزلتهم في العالم، وليست ثمَّة خصائص كامنة في اللُّغة نفسها تجعلها عالميَّة أو غير عالميَّة. اللُّغة العَرَبيَّة كانت هي اللُّغة العالميَّة أيَّام كانت للعَرَب حضارةٌ عالميَّة، ثمَّ تراجعت بتراجعهم. وأعني هنا الحضور الحضاري العالمي بأبعاده المتعدِّدة، لا الحضور المادِّي وحده.
كثيرون يردِّدون أنَّ بعض اللُّغات إنَّما فُرِضت على العالم بسبب التطوُّر الصناعي والتقني للناطقين بها. غير أنَّ التطوُّر الصناعي والتقني، الذي يعزِّز قيمة اللُّغة وحضورها بين اللُّغات الأخرى، ليس سِوَى جانبٍ تعزيزيٍّ لقيمة اللُّغة وحضورها. ولا يُغني عن عوامل أخرى إنسانيَّة: دِينيَّة، وثقافيَّة، وأدبيَّة. فعلى سبيل المثال، هل اللُّغة اليابانيَّة لُغة عالميَّة؟ أم اللُّغة الصينيَّة؟ أم الروسيَّة؟ مع أنَّ تلك لُغات دُوَلٍ صناعيَّةٍ كُبرَى. لكن المفارقة لدينا: أنه قبل السؤال عن «العالميَّة» هنا ينبغي أن يكون السؤال عن صلاحية اللُّغة العَرَبيَّة بين أهلها أوَّلًا، وحيويَّة حضورها في حياتهم. أمَّا إذا وجدتهم يتشدَّقون بغيرها في ربوعها، لفظًا وكتابة، فأقم عليها وعليهم مأتمًا وعويلًا! ولو أَمِنَت اللُّغة من ذلك المرض الداخلي، لجاءت المعزِّزات الحضاريَّة لترسيخها ونشرها ناجعةً ودافعة. مَن منَّا لا يعلم أنَّ هناك دُوَلًا أحيت لغتها «الميِّتة» منذ آلاف السنين؟ ومن ثَمَّ جعلتها لُغة التعليم والصناعة والتداول الدولي. ذلك أنَّ هذه العمليَّة الحضاريَّة لا تتأتَّى بالمقلوب، بجعل العَرَبة أمام الحصان! بل الأساس أنه ليس ثمَّة إبداعٌ ولا فِكر، أصلًا، بلا لُغةٍ صالحةٍ لنهوض الإبداع والفكر. وإذا ابتَدَرَ الرِّهانَ مُبادِروه، فأخسرهم مَن زيَّنت له نفسه الانتظار حتى تُصبح الأمَّة العَرَبيَّة أُمَّةً صناعيَّةً لتكون ذات لغةٍ محترمةٍ في العالم، وقبل هذا راسخة بين أهلها وفي أوطانها.
لكنك كثيرًا ما تسمع من بعض المخذِّلين: الزعم أنَّ هناك مبالغةً في المخاوف على اللُّغة العَرَبيَّة. وعند النظر، سترى أنها إنَّما تكمن وراء هذا الزعم مغالطةُ النعامة، إذ تدسُّ رأسها في الرمال! وإلَّا فما من مبالغة في المخاوف على العَربيَّة اليوم، بل هي مخاوف حقيقيَّة محدِقة. من حيث إنَّ مهدِّدات اللُّغة العَرَبيَّة كثيرةٌ جِدًّا، وظاهرة، ومتكاثرة، وليست من قبيل التكهُّنات؛ نابعةٌ من داخل اللُّغة، هاطلةٌ من خارجها. من داخلها، في وجهك اللهجات العامِّيَّة، الطاعنة في ضلالها القديم، التي لم يُجْدِ في علاجها تعليمٌ ولا إعلام، بل باتت آخذة بخناق العَرَبيِّ في الإعلام والتعليم معًا. وهناك، قبلها، كُساح التعليم في مجال اللُّغة العَرَبيَّة. التعليم الذي لا يستحي أن يستخدم العاميَّة، أو يستخدم لغةً أجنبيَّة، ربما في قاعات تعليم اللُّغة العَرَبيَّة نفسها، في الجامعات، وربما في أقسام اللُّغة العَرَبيَّة! فما الذي بقي مما يمكن أن يبعث على الاطمئنان أو يشفع للمطمئنِّين؟! وأمامك الإعلام، الذي انحدر سنين ضوئيَّة عن ماضيه قبل بضعة عقود، من حيث الحرص على سلامة اللُّغة وبراعة الأداء. والإعلام بالغ التأثير على اللُّغة المتداولة بين الناس أكثر من التعليم. وثمَّة وسائل التواصل الاجتماعي الر اهنة، التي باتت مؤثِّرة جِدًّا، ولاسيما على الأطفال والناشئة. أمَّا خارجيًّا، فحدِّث ولا حرج! فاللُّغات الأجنبيَّة لنا بالمرصاد في كل مكان؛ هي السائدة في التعليم، مع الأسف، والمرسَّخة في كثير من المرافق العامَّة والخاصَّة؛ حتى صار العربي يبدو بلا هويَّة، ولا لغة، ولا ثقافة، ولا انتماء. واللُّغات الأجنبيَّة تُستعمَل بغير ضرورة، في معظم الأحيان، ولكن للتباهي الفارغ، مع بؤسٍ في الوعي بضرر ذلك حضاريًّا؛ بحيث أصبح العَرَبيُّ مجردًا من نفسه، «غَريبَ الوَجهِ واليَدِ واللِّسانِ»، تابعًا لغيره، من الغرب أو الشرق، لا شخصية، ولا استقلال، ولا لغة، حتى مع بني قومه.
إنَّ اللُّغة وسيلةٌ أساس للمزاحمة في الحضور الدولي، ومن تخلَّى عن هذه الوسيلة، فقد تخلَّى عن نفسه، راضيًا أن يظلَّ راكضًا وراء الآخَرين، محاكيًا أصواتهم. إلَّا أنَّ السؤال: أ يكفي أن تُدرَس اللُّغة وتُدرَّس دون جعلها لُغة عمل، وعِلم وتعليم، وابتكار وصناعة، وثقافة وإعلام؟ والإجابة القاطعة: لا، لا يكفي، إن كان الهدف الوصول إلى الغايات المُثلَى. لكنها خطواتٌ على الطريق، وأساسيَّة لبلوغ الغايات المُثلَى، من خلال التعريب، وجعل العَرَبيَّة لغة الثقافة، والإعلام، والعلم، والعمل، وفي مواكبةٍ جادَّةٍ لكلِّ جديد.
لقد ظلَّت اللُّغة العَرَبيَّة لغة عالميَّة، يعترف بها العالَم، وكثيرًا ما يتنكَّر لها أبناؤها! لغة ذات رصيدٍ إنسانيٍّ وثقافيٍّ عريقٍ جِدَّا، بوصفها الأقدم بين اللُّغات الحيَّة. والمأمول أن يَسُدَّ المَجْمَع اللُّغوي بعض الثغرات الحضاريَّة المتفاقمة، المتعلِّقة بمكانة اللُّغة اليوم، بين أبنائها من جهة، وفي علاقتهم بالآخَر من جهةٍ أخرى.
** **
- الأستاذ بجامعة الملك سعود - العضو السابق بمجلس الشورى