أحمد بن عبدالرحمن السبيهين
اللغة العربية المجيدة، لُغة كتابنا الكريم «القرآن»، ولسان نبيّنا الهادي الأمين، عليه أفضل الصلاة والتسليم. فهي الجسر الآمن للولوج إلى علوم الكتاب، وتحريّ الصواب، لا يحول بيانها، ولا يزول لسانها، فقد فاقت باقي اللّغات لفظاً وتبياناً، سِرّا وسِحراً وجَمالاً؛ بفضل ما اتّسمت به من قوّة في البناء، وجزالة في التعبير، ودِقّة في اللّفظ والمعنى والمضمون.
فقد استطاعت أن تستوعب جميع اللّغات، وتحتوي كلّ العلوم، وتتّسع لكلّ الأزمنة والعصور، وزادها تميّزاّ خصائصها النادرة ومزاياها الفريدة؛ من كثرة مفرداتها وغِناها، ووجود المترادفات فيها وتنوّعها.
لقد جاء الإسلام، واللغة العربية مستكملة أدوات التعبير، ولها تراث أدبيّ فصيح عن شتّى المشاعر الوجدانية والاجتماعية، واتّفقت الكلمة على الاعتداد بهذا التراث، والإعجاب به منذ عصر الجاهلية حتى اليوم. والعرب أُمّة فصاحة، وبلاغة تتأثّر بالبيان الرفيع، والجملة الوجيزة الموحية.
وكانت أسواق العرب في جاهليّتها قد قامت بالاصطفاء من لُغات القبائل، وأخذَ الشُعراء والبُلغاء أنفسهم بما أجمعوا على استحسانه منها، حتى تنافسوا في ذلك، وأصبحت هذه اللّغة هي المُتّفق على التعبير بها عمّا يُخالج النفوس من أغراض وأحاسيس، وصرنا نسمع شبه هذا الإجماع على سلامة لُغة قبائل الجزيرة، والطعن بلُغات أهل السواحل، لمُخالطتهم الأجانب في الأسفار والتجارات.
فلما كانت الفتوحات، واختلاط العرب الفاتحين بالشعوب التي كانت تحت سيطرة الفُرس والبيزنطيين والأحباش، ودخول كثير من هؤلاء في الإسلام، واضطرارهم إلى تعلّم ما استطاعوا من العربية، وكان بين العرب الفاتحين وهؤلاء الشعوب اختلاط وأخذ وعطاء؛ تسرّب الفساد إلى لُغة كثير من العرب، وبدأ يُسمع لحنٌ في التّخاطب، قليلاً في البداية، ثم أخذ في الانتشار، حتى لفت إليه أنظار المُهتمّين باللّغة والغيورين عليها من أهل الحلّ والعقد.
لقد اعتُبر اللّحن هو الباعث الأوّل على تدوين اللّغة العربية وجمعُها، وعلى استنباط قواعد النحو وتصنيفها، فقد كانت حوادث اللّحن المُتكرّرة هي نذير الخطر الذي هبّ على صوته أولو الغيرة على العربية والإسلام.
إن الخوف على لُغة القُرآن الكريم له ما يفرضه من النُذر، ولقد تمكّن في النفوس حتى تضافرت جُهود العُلماء وذوي السلطان على صيانة العربية، ولذلك فقد اختطّ أهل العربية خُططاً يعالجون بها استفحال الدّاء، واشترطوا شُروطاً أسقطت الاحتجاج بكلام كثير من العرب، حتى في زمن الجاهلية.
وقد احتاج القوم إلى الاحتجاج، لمّا خافوا على سلامة اللّغة العربية من جهة، والتفريط في صيانة الدّين من جهة ثانية؛ إذ كانت سلامة أحكامه موقوفة على حُسن فهم المستنبط لنصوص القُرآن الكريم والأحاديث الشريفة، وكان في ضعف العربية تضييع لهذا الفهم الصحيح.
بحث عُلماء العربية فيمن نقل الرواة عنهم من أهل الحضر والبادية، وتقصّوا أحوالهم ونقدوها، فاجتمعوا على الاحتجاج بقول من يوثَق بفصاحته وسلامة عربيّته من عرب الجاهلية وفٌصحاء الإسلام حتى منتصف القرن الثاني الهجريّ، واعتمدوا على كلام القبائل في قلب جزيرة العرب، وردّوا كلام أهل السواحل أو من جاور الأعاجم واختلط بهم.
وكانت «قُريش» أجود العرب انتقاءً للأفصح من الألفاظ وأسهلها على اللّسان عند النُطق، وأحسنها مسموعاً وأبينها عمّا في النفس.
والذين عنهم نُقلت اللّغة العربية وبهم أقتُدي وعنهم أُخذ اللّسان العربيّ من بين قبائل العرب، هم: «قيس» و»تميم» و»أسد»، وعليهم اتّكِل في الغريب والإعراب والتصريف. ثم «هُذيل» وبعض «كنانة» وبعض «الطّائيين»، ولم يؤخذ عن غيرهم.
وأما أقوال هؤلاء العرب المُحتجّ بهم، فخيرها ما كان أعمق في حياة البادية، ولذا فقد كان مما يفخر به «البصريّون» على «الكوفيّين «أخذهم عن الأعراب «أهل الشيح والقيصوم وحرشة الضِباب، وأكَلة اليرابيع»، وحرشة الضِباب: صائدو الضباب «جمع ضب». ويقولون للكوفيّين: «أخذتم عن أكَلة الشواريز وباعة الكواميخ»! والشواريز: جمع شيراز، وهو اللّبن الثخين. والكواميخ: جمع كامخ وهو نوع من الأدم.
فالكلام العربي في رأي أهل اللّغة، شكّلته البيئة الصحراوية على الوضع المألوف لنا في لُغة العرب، كما أن أبناء العرب قد ورثوا صفات معيّنة؛ هي التي جعلت ذلك الكلام يتميّز عن غيره من لُغات البشر، لا سيّما من الناحية الصوتيّة، ففيه من أصوات الإطباق ما لا تكاد تلحظه في غيره؛ كالصّاد والضّاد والطّاء، وفيه من أصوات الحلق ما يندر أن تجد نظيره في اللّغات الأُخرى؛ كالعين والغين والحاء.. ونحوها.
فوقف القُدماء من عُلماء العربية مشدوهين بتلك اللّغة التي وفدت إلى الأمصار بعد الإسلام، فقضت على الفارسيّة في العراق، وعلى الآراميّة في الشّام، وعلى القبطيّة في مصر، وعلى البربريّة في المغرب.. وحلّت محلّ تلك اللّغات في زمن قصير نسبيّاً، إذا قي س بالأحداث التاريخية المماثلة.
إن اللّغة تُعدّ من أهمّ الملامح التي تُكوّن هويّة الأُمّة، وتُميّزها عن غيرها من الأُمم. واللّغة إلى جانب الدّين، هما العنصران المركزيّان لأيّ ثقافة أو حضارة، واللّغات تحيا وتقوى بحياة المُتكلّمين بها وقوّتهم؛ فإن كانوا أقوياء مُتقدّمين مُنافسين للأُمم الراقية في العلوم والآداب، كانت لُغتهم مثلهم، وإن كانوا ضُعفاء عاجزين مُتأخّرين عن ركب المدنيّة والحضارة، كانت لٌغتهم كذلك.
إن اللّغة العربية ليست مُجرّد وسيلة اتّصال أو وعاء لنقل الأفكار والمعاني، بقدر ما هي مكوّن ثقافيّ وحضاريّ من روافد الثقافة العربية، وبالتالي لا يُعدّ الحفاظ عليها والدعوة إلى حمايتها ترفاً فكريّاٌ، بل ضرورة قوميّة تتطلّب تكاتُف جميع الجهات المعنيّة لضمان المحافظة على هويّة المجتمع، وتوفير بيئة صالحة تُساعد اللّغة على النموّ والتطوّر لاستيعاب مُستجدّات العصر، من دون قطع صِلاتها بالتراث المجيد.
وإن مما يُبهج القلب ويُسعد الخاطر، أن نشهد الاحتفاء باليوم العالميّ للّغة العربيّة، الذي يوافق الثّامن عشر من شهر ديسمبر من كلّ عام، وهو اليوم الذي أصدرت فيه «الجمعيّة العامّة للأُمم المُتّحدة» قرارها الذي ينصّ على إدخال اللّغة العربية ضمن اللّغات الرسمية ولُغات العمل في الأُمم المُتّحدة، بعد اقتراح قدّمته المملكة العربية السعودية والمملكة المغربية لمنظّمة الأُمم المتّحدة للتربية والعلوم والثقافة «اليونسكو».
ويُتوّج هذا الاهتمام باللّغة العربيّة من جانب المملكة، بتأسيس «مَجمَع الملك سلمان العالميّ للّغة العربيّة»، بالرياض في عام 1442 هجريّة، الموافق عام 2020 ميلاديّة، والذي أنشأته وزارة الثقافة ضمن الإستراتيجيّة الوطنيّة للثقافة في رؤية المملكة 2030.
إن رؤية «المَجمَع» التي تنصّ على الريادة والمرجعيّة العالميّة في خدمة اللّغة العربيّة، ورسالته التي تنصّ على خدمة اللّغة العربيّة عالميّاً، وتعزيز إسهامها الحضاري والعلمي والثقافي وإمكاناتها بالوسائل المختلفة؛ تتجلّيان في تحقيق الأهداف الإستراتيجيّة «للمَجمَع»، والتي تشمل:
- تعزيز البحث والنشر في اللّغة العربية.
- تمكين مرجعية «المَجمَع» العالمية، من خلال بناء السياسات والمعايير اللّغويّة وتطويرها.
- تحقيق المرجعية العالمية في المدوّنات اللّغويّة والمعاجم العربية.
- تعزيز تقنيات الذّكاء الصناعي في المعالجة الآليّة للّغة العربية، وتطويرها محليّاً وعالميّاً.
- تطوير مستوى كفاية تعلّم اللّغة العربية، وتعليمها محليّاً وعالميّاً.
- تعزيز نشر ثقافة اللّغة العربية محليّاً وعالميّاً، وإحياء تُراثها.
إن السعي والعمل على تحقيق هذه الأهداف، وتظافر الجهود لإنجازها على مختلف المستويات ليُشكّل بارقة أمل وإشراقة تفاؤل لمستقبل زاهر للّغة العربيّة بمشيئة الله تعالى.