د. شاهر النهاري
اللغة العربية أصالة جذور وتاريخ وفنون، ولكنها تقوقعت وابتعدت عن مجريات ومستحدثات الحياة الجديدة، أثناء فترات الاستعمار، ولم تجد من يراعيها ويحميها، ويعليها، ويحفزها لمنافسة اللغات العالمية الحية على خطوط المقدمة.
وحقيقة أن مسمى مَجْمَعٌ اللغة العربية، كان متواجداً منذ منتصف القرن الماضي في كل من القاهرة وبغداد ودمشق، وأن اللغة العربية قد وجدت بتلك الجهود الكثير من الرعاية والمكانة، بأعضاء يستقطبون من شتى مثقفي الدول العربية، وكان لها جهود عظيمة بمحاولات إبراز قيمة اللسان العربي، وخصوصاً في مناهج الدراسة على جميع مستوياتها، بالإضافة لقدرتها على توسيع نطاقاتها الثقافية والإعلامية واستيعاب المخترعات الجديدة، وترجمة المصطلحات العلمية والرياضية والطبية والهندسية، وبما سمح في دمشق وبغداد لتعريب دراسات وعلوم ومهنة الطب، ومهن حديثة أخرى.
المعضلة أن تلك الدراسات العلمية كانت في دول العالم المتقدم مرتبطة باللغات الإنجليزية واليونانية، والفرنسية والإسبانية والروسية.
وهذا ما زاد من صعوبة الطريق على من درسوا وتدربوا باللغة العربية وتوجههم للدراسات العليا، أو العمل في بلدان أجنبية، أو عربية، ما يجعلهم يعودون لصفوف الدراسة من جديد لتعلم اللغات الأجنبية، ومحاولة خلق التوازن بينهم وبين الزملاء.
وبتأثيرات التغريب، لم تكن أعمال المجمعات العربية تلقى الانتباه شعبيا، ولا عند كثير من المثقفين العرب، بمشاعر أنها تحتوي على مسارات تصلب وغرابة ما كانت تنتقيه من مسميات عربية كانت تعد فكاهات عند البعض، وبالطبع فلم يكن الإعلام حينها عاملاً داعماً مساعداً للرسوخ والانتشار، فرأينا أنها تعود للذبول مجدداً على خريطة الثقافة العربية، المتأثرة باللهجات، ونهاية بما حدث حولها من شتات وفوضى الثورات والحروب.
ولكون موقع المملكة العربية السعودية ثقافياً أصبح بارزاً في وقتنا بين الدول العربية والعالمية، وتبعاً لنبض الثقافة المتعالي، ومستويات الرفاه الاقتصادي، وبوضوح الرسوخ السياسي، كان أن بادر الملك سلمان بتأسيس «مجمع الملك سلمان للغة العربية»، بمدينة الرياض، 13 محرم 1442هـ الموافق 1 سبتمبر 2020، تحت مظلة وزارة الثقافة السعودية وضمن الاستراتيجية الوطنية للثقافة، التي أطلقها وزير الثقافة بدر بن عبدالله بن فرحان في 27 مارس 2019، كجزء من رؤية السعودية 2030، بطموحات صنع مرجعاً علمياً وطنياً يشمل كل ما يتعلق باللغة العربية وعلومها ومساراتها المستقبلية.
هذا الصرح العلمي الوطني الجديد امتلك كل الطموحات والدعم والامكانيات والعقول والأيدي الفاعلة والعلاقات الدولية والمبادرة، والأهداف السامية لرفعة اللغة العربية.
فكان من أهم أهدافه نشر اللغة العربية وحمايتها، إضافة إلى تصحيح الأخطاء الشائعة في الألفاظ والتراكيب، وترجمة النتاج المعرفي العالمي، وتعريب الألفاظ والمصطلحات المستحدثة، ودراسة اللهجات المكملة والفرعية عن الفصحى، رغبة في إبراز وترسيخ مكانة اللغة العربية وتفعيل دورها إقليمياً وعالمياً.
وكان من أهدافه أيضاً، المحافظة على سلامة اللغة العربية، ودعمها نطقًا وكتابة، والنظر في فصاحتها وأصولها وأساليبها ومفرداتها، وضوابطها وقواعدها، وتيسير تعلمها وتعليمها داخل المملكة وخارجها؛ لتواكب المتغيرات في جميع المجالات.
والمجمع يعمل على توحيد المرجعية العلمية داخليًا فيما يتعلق باللغة العربية وعلومها، والعمل على تحقيق ذلك خارجيًا، لتكوين البيئة الملائمة للتطوير والترسيخ.
ومن واجباته إحياء تراث اللغة العربية دراسةً وتحقيقًا ونشرًا، والعناية بجودة الدراسات، والأبحاث، والمراجع اللغوية، ونشرها، وتشجيع العلماء والباحثين والمختصين في اللغة العربية.
وكانت أهم ركائز المجمع الاستراتيجية تعزيز الهوية الوطنية، والشعور بالانتماء وتحقيق التبادل الثقافي.
ومن أنشطة ومشاريع المجمع:
1. تصميم المعايير والسياسات اللغوية داخليًّا وخارجيًّا، والعمل على تفعيلها.
2. دعم المشاريع البحثية.
3. التعاون مع الوفد الدائم للسعودية في منظّمة الأمم المتحدة، للاحتفاء باليوم العالمي للغة العربية.
4. التفاهم مع منظمة التعاون الإسلامي، في انتاج ملتقيات وفعاليات في الدول المسلمة.
5. النشر العلمي المختص، والمجلات العلمية المحكمة.
6. بناء مؤشرات خاصة باللغة العربية تهدف لموازنتها باللغات العالمية، والتحليل الكمي والنوعي لأهم قضاياها.
7. إصدار تقارير سنوية، ورسوم وبيانات، يستفيد منها المهتمون باللغة العربية أفراد ومؤسسات.
8. بناء السياسات اللغوية لبعض المؤسسات محليًّا وإقليميًّا ودوليًّا.
9. تفعيل قطاع الحوسبة اللغوية، وربطها بالجهات البحثية، وبناء التطبيقات والأدوات والبرامج الموازية للتوسع التقني في اللغات الأخرى.
10. إنتاج ومتابعة مدونة اللغة العربية المعاصرة.
11. رعاية مشروع توظيف تقنيات الذكاء الاصطناعي.
12. عمل معجم للغة العربية المعاصرة.
13. إنشاء وتمويل جائزة المَجْمَع للغة العربية.
14. تدشين حملات علاقات عامة ومعارض، والعناية بالشعر بكل صوره وعصوره المختلفة.
وحقيقة أن الحديث يطول فيما فُعِل، وما يمكن أن يُفعَل في هذا الصرح العظيم.
وأخيراً فأنا أرى أن ما تقوم به السعودية ممثلة بوزارة الثقافة والمجمع يبلغ منتهى الطموح، ولكني أتأمل في تأكيد الفوائد والمنتوج للمدى البعيد:
1. بالتفاهم والتعاون مع الدول السباقة في ذلك المجال، للاستفادة من أعمالهم وتجاربهم وأرشيفهم، بنوايا توحيد البناء.
2. حسن الاختيار النوعي للمتعاونين، وتقنين المصاريف التي تدفع لهم، حتى لا يكون التعاون مؤقتًا ماديًّا.
3. التأكيد على أن اللغة العربية مثلها مثل غيرها من اللغات، حاوية تحمل الجيد والرديء، وأن عمليات الغربلة والفلترة والتجديد تحتاج الخطط السليمة الواضحة، والنفس الطويل.
4. معرفة أن اللغة العربية ليست صافية ولا رئيسية عند أغلب أطياف العرب، ممن يعانون من اختراق اللهجات واللغات الأجنبية لمجتمعاتهم وثقافاتهم، وكونها لغة ثانية، أو ثالثة.
5. معرفة أن ما يحدث في المحافل والمؤتمرات والمبادرات شيء، قد يحسب بالعكس، إذا لم تثبت خطوط الوصول، والضبط، والإدارة.
6. الطفولة هي أساس رسوخ أي لغة، والتدخل في المناهج، وفي نوعية المدرسين والوسائل يجب أن يكون هدفا يسعى المجمع إليه.
7. أن أي مشروع حضاري، ومهما أبدع في الأنشطة والفعاليات والتواجد، وإذا لم يستطع خلال عدة سنوات أن يصرف على ذاته، يعد مشروعاً ناقصاً، وتلك ثقافة العصر، ومتطلبات الرؤية، فنتمنى من مدير المجمع الصديق الدكتور عبدالله الوشمي، السعي لذلك، لتحقيق الاكتفاء الذاتي.