عبدالله العولقي
لا أزال أتذكر الصدى الثقافي العظيم في نفوس اللغويين والمفكرين العرب بعد صدور أمر مجلس الوزراء في 13 محرم 1442هـ بإنشاء مجمع الملك سلمان العالمي للغة العربية، فكان لهذا القرار أثراً إيجابياً في نفوس المهتمين بمستقبل اللغة العربية من المثقفين والمفكرين وعلماء اللغة في جميع أنحاء العالم، نظراً لما تتطلبه المرحلة الحالية من وجود مجمع لغوي عصري حديث يتعامل بإيجابية فاعلة وبمنهجية علمية معاصرة مع تحديات التطور التقني المتسارع، بدلاً من المنهجيات التقليدية التي أصبحت لا تتواءم مع تحديات وظروف المرحلة الحالية.
ويأتي تدشين مجمع الملك سلمان العالمي للغة العربية كثمرة يانعة من ثمار الرؤية الوطنية 2030 التي تستهدف إحداث نقلة نوعية لمكانة المملكة العربية السعودية إقليمياً وعالمياً، فكان هذا المجمع اللغوي العالمي الذي يهدف إلى تعزيز دور اللغة العربية بين اللغات الحية العالمية، وإبراز قيمتها المعبرة عن العمق اللغوي للثقافة العربية والإسلامية، فقد تأسس هذا المجمع كمرجعية علمية رسمية على المستويين الوطني والعالمي فيما يتعلق بعلوم اللغة العربية أمام التحديات اللغوية الإنسانية لا سيما في ظل الصراعات الثقافية الدولية التي بدأت بفرض بعض اللغات الأجنبية كلغات رسمية دولية في مقابل تهميش وتذويب اللغات الأخرى.
وفي الحقيقة أن مجمع الملك سلمان العالمي للغة العربية يقدم خدمات استثنائية جليلة لا يمكن استقصاؤها في هذا المقال، بيد أن ما لفت نظري حول هذه الخدمات أمرين اثنين: الأول هو الإبداع الابتكاري في تقديم الخدمات، والأمر الآخر هو استخدام التقنية الحديثة في تقديم الخدمات بصورة جذابة ورائعة، وحتى تتضح الصورة أكثر، نتحدث عن أهم التحديات المعاصرة التي تواجهها اللغة العربية كتطبيقات الذكاء الاصطناعي، والتي بدأت تفرض هيمنتها في حاضر ومستقبل الإنسان، ولذا قام مجمع الملك سلمان العالمي للغة العربية بخطوة استثنائية فريدة من نوعها بتدشين عدة مراكز حيوية داخل المجمع للتعامل الرائد مع التطور التقني المتسارع، فمثلاً تم تأسيس (مركز ذكاء العربية) والذي يعد أول مركز ذكاء اصطناعي يختص في المعالجة الآلية التقنية للغة العربية، وتهدف هذه الخطوة الرائعة إلى تقديم خدمات تقنية متكاملة للمهتمين بشؤون وقضايا اللغة العربية من أجل إثراء المحتوى العربي في مجال البيانات وفضاء الساحة الإلكترونية، وتقديم الدعم اللغوي للباحثين بكل يسر وسهولة.
كما أطلق مجمع الملك سلمان العالمي للغة العربية مشروع برمجان (هاكثون)، وهو برنامج مذهل ومتميز تم تدشينه في 25 مايو 2022م، حيث يركز المشروع على معالجة اللغة العربية آلياً، كما أطلق المشروع برنامج حيوي تم وسمه بـ(مدونة اللغة العربية المعاصرة) حيث يسعى هذا البرنامج إلى توظيف تقنيات الذكاء الاصطناعي لخدمة قضايا اللغة العربية، بالإضافة إلى موضوع رصد الظواهر اللغوية في الفضاء التقني، وبناء التطبيقات الحاسوبية المختصة في تسهيل البحث اللغوي وتحليل البيانات واسترجاعها، وتأتي هذه الخطوة من أجل تقديم فكرة أسمى للمهتمين بشؤون اللغة العربية، وأعني إنشاء معجم لغوي عصري يتلاءم مع مستحدثات التطور الإنساني المتسارع في مجالات التقنية، كما أن بيئة البحث العلمي الحالية تقتضي إيجاد الطريقة المثلى لتسهيل مهمة تعامل الحاسوب الآلي مع قضايا اللغة العربية كما أشرنا لأهمية هذه الخطوة في بداية المقال، فكانت هذه الفكرة الرائعة (مدونة اللغة العربية المعاصرة) من أجل إثراء المحتوى العربي في الفضاء التقني من جهة، ومساعدة الباحثين في دراساتهم البحثية من جهة أخرى، فالمرحلة الراهنة تقتضي وجود ذلك المعجم اللغوي العصري الذي يلبي احتياجات متحدثي اللغة العربية في زمن التسارع التقني.
أطلق بعض اللغويين على هذا القاموس اللغوي العصري مسمى (معجم الرياض) لتمييزه عن غيره من المعاجم العربية الأخرى، حيث يتميز معجم الرياض باستناده إلى معايير الصناعة المعجمية الحديثة التي تُسهِّل الوصول إلى المعنى، فهو يحتوي على أكثر من (450) مليون كلمة، من ضمنها: نحو (120) ألف مدخلٍ معجمي، و(140) ألف معنى، و(150) ألف مثال، بينما تجاوزت مترادفاته ومتضاداته حوالي (35 ألفاً)، وللقارئ الكريم أن يتخيل ضخامة هذا المحتوى الهائل، كما تتيح مبادرة المستشار اللغوي لمستخدمي الموقع الإلكتروني طرح أسئلتهم واستشاراتهم اللغوية ليجيب عنها مستشارون لغويون متخصصون، مع عرض الأسئلة والإجابات على الموقع حتى تعم الفائدة للجميع، إضافة إلى مبادرة (منصة خوالد) وهي منصة إلكترونية صوتية تستهدف تسجيل ألف قصيدة مختارة من عصر ما قبل الإسلام؛ ولأهمية مراعاة الاحتياجات الخاصة لفئتي الصم وضعاف السمع، أطلق المجمع مسار اللغة العربية عبر تنفيذ العديد من الدورات والبرامج تلبي حاجاتهم اللغوية بالشراكة مع الجهات ذات العلاقة، وهذا غيض من فيض مما يقدمه مجمع الملك سلمان العالمي للغة العربية من خدمات استراتيجية لخدمة اللغة، وكما يلاحظ حول نوعية تلك البرامج والخدمات التي يقدمها المجمع أنها نوعية ومتخصصة بامتياز، وذات صبغة إبداعية ابتكارية بعيدة عن التقليدية المملة، وهذه منهجية حديثة تتلاءم مع طبيعة أهداف الرؤية الوطنية، والتي تستحق كل الإشادة والتقدير.
نلاحظ من خلال ذلك الزخم الكبير الذي يمنحه المجمع من الخدمات الإبداعية لخدمة اللغة العربية، وبالتالي فنجاح مجمع الملك سلمان العالمي للغة العربية في تحقيق أهدافه المنشودة يعكس حالة نجاح الرؤية الوطنية التي يقودها سمو ولي العهد، الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز، والتي أثمرت نتائجها المرجوة على الأصعدة التنموية كافة، ويعتبر مجمع الملك سلمان العالمي للغة العربية إحدى المبادرات الاستراتيجية الوطنية لوزارة الثقافة، والتي يقودها سمو الأمير بدر بن عبدالله بن فرحان آل سعود بكل احترافية واقتدار، حيث يهدف المجمع إلى أن يصبح خلال السنوات المقبلة مرجعية عالمية من خلال نشر اللغة العربية حول العالم، ودعم أبحاثها العلمية وكتبها المتخصصة، إضافة إلى تصحيح الأخطاء الشائعة في الألفاظ والتراكيب، وإعداد الاختبارات والمعايير الملائمة لها، بالإضافة إلى توظيف تقنية الذكاء الاصطناعي وتذليلها في خدمتها، وصناعة المدوّنات الإلكترونية وعمل المعاجم الموسوعية، وإنشاء مراكز لتعليم اللغة العربية بأساليب حضارية مميزة حول العالم، بالإضافة إلى إقامة المعارض والمؤتمرات الدولية التي تعنى بها، وترجمة الإنتاجات المعرفية والعالمية.
وهنا لا بد من التنويه أن دور مجمع الملك سلمان العالمي للغة العربية لا يتعارض على الإطلاق مع أدوار المجمعات اللغوية الأخرى في القاهرة ودمشق وبغداد وغيرها، فهو يقوم بدوره التكاملي الإثرائي مع تلك المجمعات ضمن منظومة (اتحاد المجامع اللغوية)، بل إن مجمع الرياض من خلال برامجه الاستثنائية الحديثة يتميز بتقديمه خدمات إثرائية لبقية المجمعات اللغوية الأخرى من خلال الإمكانات التقنية المتطورة، فنظرة سريعة للموقع الإلكتروني لمجمع الملك سلمان العالمي للغة العربية تعكس صورة الخدمات الجبارة والمميزة التي يقدمها المجمع لكل المهتمين بقضايا وشؤون اللغة العربية.
الأمر الآخر الذي أراه أكثر أهمية هو موضوع قواعد بيانات اللغة العربية، حيث يعد جمع البيانات وأرشفتها في قواعد بيانات منظمة من الأعمال الاستراتيجية المهمة التي يعمل عليها مجمع الملك سلمان العالمي للغة العربية، إيمانًا بأهمية المعلومة وتوثيقها وتوفيرها للراغبين فيها من الباحثين والعلماء، حيث يسعى هذا المشروع الاستراتيجي إلى تعزيز مرجعية مجمع الملك سلمان العالمي للغة العربية محليًّا وإقليميًّا ودوليًّا في الشأن اللغوي والمحتوى العربي، وتوفير بيانات تخدم اللغة العربية والمهتمين بها وتساند التخطيط اللغوي ورسم السياسات اللغوية وفق الإحصاءات والبيانات المتوافرة في القواعد، بالإضافة إلى تعزيز الحراك العلمي والبحثي في اللغة العربية وما يتصل بها، وتوثيق الجهود المبذولة في خدمة اللغة العربية ونشرها،، والحصول على أرقام وبيانات يمكن استثمارها اقتصاديًّا أو علميًّا، كما يتجه المشروع كما جاء في الموقع الإلكتروني للمجمع إلى بناء منظومة واسعة من قواعد البيانات، تتضافر لخدمة العربية وتقديم معلومات جوهرية تعطي تصورًا عن الواقع الراهن، وتسهم في البناء التراكمي لخدمة اللغة العربية.
لا شك أن مكانة المملكة العربية السعودية في العالمين العربي والإسلامي، تتحتم بوجود مركز عالمي حضاري لخدمة اللغة العربية يهدف إلى تجسير الفجوة الثقافية بين اللغة العربية واللغات العالمية الأخرى، فأرض المملكة هي مهد الحضارات العربية القديمة، وموطن شعراء المعلقات في الزمن القديم، كما أنها مهد بزوغ فجر الإسلام، ومن أرضها الكريمة انتشر الدين الإسلامي الحنيف ليصل إلى أكثر من مليار مسلم ينتشرون في بقاع العالم كافة، وعلى أرضها الشريفة نزل القرآن الكريم على نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-، كما تتشرف المملكة باحتضان الحرمين الشريفين في مكة المكرمة والمدينة المنورة، وهي الدولة الرائدة في إنشاء معاهد تعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها حول العالم، كل هذه العوامل الجغرافية والتاريخية تجعل من الرياض الحاضنة الرسمية الأولى للغة العربية.
وفي الختام.. لا شك أن مجمع الملك سلمان العالمي للغة العربية سمة مهمة من سمات القوة الناعمة السعودية، فيأتي تدشينه التاريخي كخطوة حضارية ثقافية لإبراز مكانة المملكة العربية السعودية وتأكيداً لريادتها الطموحة على الصعيدين الإقليمي والعالمي، وامتداداً مؤسسياً لتعزيز حضورها الثقافي في المحافل الدولية، لا سيما أنه تحت مظلة مجمع علمي ريادي وصرح ثقافي عالمي، يحمل اسماً غالياً على قلوبنا وقلوب العرب والمسلمين.