أحمد يوسف الراجح
برحيل الأمير بدر بن عبدالمحسن فقدنا أحد أهم رموز الحركة الثقافية والفنية في المملكة العربية السعودية بعد أن وافته المنية في العاصمة الفرنسية باريس إثر مرض ألم به ولم يمهله الكثير تاركاً خلفه حزناً وألماً في وجدان محبيه وسيرة عطرة وسجلاً حافلاً ببصمات ثابتة في تفاصيل وصفحات التاريخ الثقافي والفني للمملكة العربية السعودية.
تلك المسيرة الثقافية والفنية الممتدة لنصف قرن ما بين القلم والريشة من الصعب أن تختزل فقد نالت برصانتها الأدبية والفنية نجاحات منقطعة النظير قاد بها (البدر) لواء الأغنية السعودية من المحلية إلى العربية محققاً مع الفنانين الثلاثة الكبار انتشاراً غير مسبوق ونجاحات باهرة فضلتها على غيرها من الأغنيات في المنطقة.
إن من يسترجع سيرة الأمير بدر بن عبدالمحسن يجد أنه مرّ بمراحل ثرية أسهمت في تشكل المواهب الشعرية والتشكيلية حتى باتت أي قصيدة أو لوحة فنية للبدر تحاكي الوجدان دون استئذان، مدرسة خاصة ونهجاً إبداعياً فريداً من نوعه أصبح ماركة مسجلة «للبدر».
ما يميز مدرسة البدر
إن أبرز ما يميز هذه المدرسة الشعرية الحديثة هي القدرة على دمج صور إلى حروف، إلى قصة، إلى نص شعري بصياغة مدهشة عنوانها الروعة والإعجاز للصناعة الأدبية وإذا ما نظرنا إلى القصيدة والأغنية قبل «البدر» كانت اعتيادية ذات آفاق ضيقة ومساحة محدودة فاقدة للخيال الذي يخدم النص ويحفز العقل والفكر ويترك مساحه للفنان والملحن لكي يكون عمله أكثر جوهرية.
عزيزي القارئ لا يمكن أن نختزل كل القصائد في هذا المقال ولكن دعني استعرض معك عدة نصوص مغناة استثمر «البدر» كافة إمكانياته الشعرية التي أسسها
وسوف أبدأ عزيزي القارئ بقصيدة «صوتك يناديني» التي تغنى بها فنان العرب محمد عبده ولحنها بلحن من كوكب الإبداع.
صوتك يناديني تذكّر،
تذكّر الحلم الصغير
وجدار من طين، وحصير
وقمرا ورا الليل الضرير
لا هبّت النسمة تكسّرْ
جيتي من النسيان،
وإلى آخر النص
من الوهلة الأولى لقراءة هذا النص ترتسم أمامك لوحة تشكيلة فنية بمونتاج عال وإخراج احترافي ودقيق «للبدر» مستغلاً موهبة الرسم بالكتابة دامجاً الواقع بالحلم والحقيقة بالخيال روعة وتصويراً إبداعياً إعجازياً ومن ثم تصوير وتسخير للطبيعة والمرأة، حيث يحاكي هذا النص المدهش قصة حب انتهت ولكنها ابتدأت من جديد حينما عادت مرة أخرى «ريانة العود» تذكرة بالحب الذي حاول أن يتناساه طوال السنين ولكنه يبدأ من جديد ليبدأ هو الآخر معه وكأنه لم يحدث فراق في تصوير وجداني سينمائي لا يتكرر إلا مع «البدر».
وفي قصيدة ابعتذر
ابعتذر.. عن كل شي..
إلا الهوى.. ما للهوى عندي عذر..
عند قراءة هذا النص أو غنائه ستجد أنه تحول إلى فيلم رومانسي جسد به فنان العرب دور البطولة بذلك الصوت الذي لا يشيخ واللحن العميق إلى مشاهدة مليئة بالأحاسيس والوجدانيات والإثارة والتشويق مع كل «كوبليه» للأغنية التي كانت عبارة عن مشاهد سينمائية لقصة كان بها الندم في كثير من مواضع القصيدة ومحاولات للاعتذار المتكررة لنيل الرضا ولمحو الخطأ حتى ولو كان ذلك بالجحود إلى أن تمنى أن ذلك الحب لم يكن ليرتاح من الندم وذلك عندما قال «ليت الهوى وانتِ... كذب...
أما قصيدة على الميهاف التي تغنى بهاء الموسيقار وسفير الحزن عبادي الجوهر:
على آخر تراب الأرض،
أحس أن المسافة شبر،
في صدري ندم جبار.
تصورتك في شامة ليل،
على خد السما الزرقا،
زحام، والدنيا سهرانة،
أحد نازل، وأحد يرقى،
وأحد مثلك يخاف من البلل، والطين،
تجد الكثير من المشاهد السينمائية المدهشة لذلك النص الفلسفي المليء بروح الحزن والخوف والندم بصوت سفير الحزن عبادي الجوهر الذي صاغ أروع لحن للقصيدة من خلال إيجاده للمساحة السينمائية الكافية للتعبير عن ألمشاهد الدرامية التي جسدها «البدر» وفق أفضل تمكين للقصيدة.
وفي قصيدة «ليلة تمرين» التي تغنى بهاء صوت الأرض طلال مداح صوته الدافئ والمعبر:
بكل حنان وحب ليلة تمرّين،
عطرك السافر فضح ورد البساتين
وكثر الكلام
صحيح جرحتي الظلام،
بالخد وبنور الجبين
يحاكي هذا النص كل معاني الحب والفلسلفة الرومانسية، حيث شكل «البدر» ثنائيّة بين البشر والطبيعة محاكياً جمال المرأة بالطبيعة، بل وتغلبها حتى إنه استطاع أن يجعل من تعذيبها وجفوتها -عذبة - برومانسية هائلة جعلت من هذه القصيدة رائعة من رواع الشعر الغنائي
وفي الأعمال الوطنية لا يمكن أن نتجاوز أروع وأجمل عمل غنائي للوطن ألا وهو فوق هام السحب:
فوق هام السحب وإن كنتي ثرى
فوق عالي الشهب يا أغلى ثرى
عزك لقدّام وأمجادك ورا
وإن حكى فيك حسادك ترى
ما درينا بهرج حسادك أبد
أنتي ما مثلك بها الدنيا بلد
حيث يعد هذا العمل حالة إبداعية تعبر عن مشاعر حب كل مواطن سعودي لهذا الوطن العظيم ويشكل لنا في تفاصيله حاله استثنائية تعيش في كل زمن ومع كل جيل حتى باتت هذه الأغنية هي المرادفة لنشيدنا الوطني لتشاركنا في كل مناسباتنا الوطنية، ولذلك نالت إشادة الملك فهد والملك سلمان وقال عنها الأمير خالد الفيصل: لو لم يكتب «البدر» إلا هذا النص لكفاه.
وقس على هذا النص الكثير من النصوص الوطنية والعاطفية التي استخدم بها «البدر» هذه الأدوات التي ميزته وجعلت من كل قصائده ذات مدلولاً عميقاً ومؤثراً وتستطيع أن تجعل منها لوحة تشكيلية أو فيلماً سينمائياً لاحتوائها مشاهدَ عميقة من خلال القدرة على الوصف المدهش والرهيب.
ولذلك تمت ترجمة الكثير من قصائد الأمير بدر بن عبدالمحسن إلى اللغتين الإنجليزية والفرنسية، كما عرضت لوحاته في عدة معارض أهمها معرض اليونيسكو في باريس بست وثلاثين لوحة تشكيلية.
وتم تكريمه في عديد من المناسبات، ويأتي أهمها تكريم خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود - حفظه الله - بمنحه وشاح الملك عبد العزيز، تعبيراً عن تقدير الوطن والمواطنين لإسهاماته الأدبية.
الأمير بدر بن عبدالمحسن هو مؤسس المدرسة الشعرية الحديثة وسيظل دائماً في قلوبنا وتاريخنا ومهما كتبنا لن نوفيه حقه ولكن من واجبنا أن نذكره فنشكره كونه من أسس الشعر الحداثي الفلسفي، هذا النهج الذي ينهل منه الكثير.
وفي الختام رحم الله صاحب السمو الملكي الأمير بدر بن عبدالمحسن وأسكنه فسيح جناته. وعزاؤنا للقيادة الرشيدة وللأسرة المالكة كافة والشعب السعودي الكريم.