محمد بن عبدالله العمري
وصلتني دعوة كريمة من مركز دار الزهور لرعاية الأيتام التابعة لجمعية أم القرى الخيرية النسائية في مكة المكرمة لحضور ندوة (يداً بيد نحو التمكين) تحت شعار (نحن أملهم) في مناسبة يوم اليتيم العربي يوم 6 ذي القعدة 1445هـ في الغرفة التجارية بمكة المكرمة.
وكم كانت سعادتي وأنا أُعيد ترتيب جدولي الصباحي وأؤجل موعداً هاماً لأتمكّن من الحضور.
وكم كانت سعادتي أكثر وسعادة غيري الحاضرين لتلك الندوة ونحن نتقابل في مقر الندوة في غرفة مكة المكرمة التجارية مع بناتنا فاقدات الرعاية الوالدية وقد وصلن لأعمار تجاوزت مراحل الاحتضان وبلغن الخمس والعشر والخمس عشرة والعشرين سنة وغيرها من العمر، وتقابلنا واستمعنا إلى الجهود الكبيرة التي تُبذل لهن في تلك الدار واستمعنا بشغف لجهود جمعية أم القرى الخيرية النسائية التي تُعتبر من أقدم إن لم تكن أقدم جمعية نسائية خيرية في المملكة منذ خمسين عاماً، وتشرفنا وغيرنا بالاستماع إلى جهود مديرة الدار الدكتورة سارة حابس ورئيسة الجمعية الدكتورة فائزة فلمبان وعددٍ من الأحبة والمهتمين بهذا الجانب.
استمتعت كثيراً وأنا أشاهد إعجاب الحضور بالرؤية المستقبلية للدولة أعزها الله للأيتام فاقدي الوالدين (الرُضع الجُدد) من الأولاد والبنات والذين يتم تحويلهم مباشرة لأسر حاضنة ويدخلون في برنامج الإرضاع تحت رعاية الدولة أعزها الله وسدد خطاها من خلال جمعيتنا الراقية والفاعلة (جمعية الوداد)، ولكنني في الوقت نفسه تألمت كثيراً عن مصير (دور الأيتام للفتيات الكبار) اللاتي أتين لتلك الدور منذ صغرهن ويدرسن الآن في الصفوف الأولى والمتوسطة والثانوبة والجامعية بل وتخرج البعض منهن من الجامعة، تألمت بعد أن سمعت في الندوة بأن هناك توجهاً لإغلاق تلك الدور (للفتيات) لمبررات إدارية وقد تكون مالية واجتماعية وغيرها من المبررات (قد يمكن قبول إقرار دار الشباب والرجال كون الرجل له استقلاليته وقوته الذاتية وقد لا يحتاج لمرجعية أسرية بنفس حاجة الفتاة).
صحيح أن هناك ولله الحمد برامج متعددة لتلك الفتيات ومنها برامج التوظيف والزواج والتعليم والتمكين وغيرها من البرامج التي تقدمها الدولة أعزها الله وحماها من كل مكروه، لكنني لمست شعوراً مؤلماً وقاسياً لدى تلك الفئة متمثلاً في (هل سيغلقون بيوتنا التي تربينا وعشنا فيها؟) و(هل سننفصل كلياً عن أمهاتنا وأسرنا اللاتي تربينا معهن طوال سنوات؟) وهل لن يكون لي كفتاة يتيمة بيت للعائلة؟ حتى لو تزوجت وتوظفت؟ ومن لي لو تطلقت أو واجهت مشكلة حياتية أحتاج لأستشير وألجأ لأسرتي وبيتي الذي عشت فيه؟.
لا أخفيكم القول فقد شعرت معهن بذلك الإحساس وتساءلت بيني وبين نفسي (هل استلم صاحب القرار في الإقفال دراسة أو تقريراً عن مدى وقع إقفال بيت العائلة لتلك اليتيمات من الناحية الفسيولوجية أو الاجتماعية وغيرها؟) وهل الكل من بناتنا اليتيمات اللاتي عشن بين جدران تلك الدور منذ صغرهن وحتى الآن سيستطعن نسيان بيت العيلة ونسيان أمهاتهن اللاتي ربينهن ودرسوهن وزوجوهن؟.
وتساءلت أيضاً كم حجم الخسائر المادية والإدارية التي ستخسرها الجهات التي تصرف على هذه الدور لسنوات بسيطة قادمة لتلك الفئة فقط اللاتي عشن وتربين فيها؟
في الواقع لابد لنا ولصاحب القرار في الوزارة وفي القطاع الخيري أن يكون على ثقة وعلم بأن تلك الدور هي (بيت العائلة أو بيت الأسرة) أو ما يسمى في العرف الشعبي (بيت العيلة) بل وتفوق في وقعها النفسي والفسيولوجي على اليتيمات أكثر من وقعها علينا نحن فئة المجتمع الأخرى والذي نعيشه (نحن يا من رزقنا الله بالوالدين والأسرة بذلك البيت الذي نجتمع فيه في نهاية الأسبوع والمناسبات والإجازات مع أمهاتنا أو آبائنا وبقية أفراد أسرتنا الذين تربينا وعشنا معهم).
من ضمن تساؤلاتي لنفسي هل جميع بناتنا فاقدات الوالدين سينجحن في الزواج وتكوين أسرة؟ وهل يمكن لمن نجح منهن أن تتغلب على مشاكل الحياة دون الرجوع لبيت أسرتها الذي تربت فيه؟ وهل يمكن أن تتغلب على عاطفة زيارة (بيت العيلة) كما هو حال بقية البنات في الأسر الحقيقيه؟
الواقع إنها كانت بالنسبة لي أفكاراً وتساؤلات مؤلمة تداخلت في خاطري وفكري وربطتها بفسيولوجية العلاقة بين الشخص وبين المكان الذي تربى وعاش فيه، فهل يمكن للفتاة اليتيمة التي وصلت مثلاً لمرحلة البلوغ القدرة على نسيان 18 سنة من بداية حياتها ومع أمها وأسرتها تلك السنين التي تشكلت فيها مشاعرهن وحنينهن مع (بيت العيلة) ومكوناتها بدءاً من الأم المسؤولة عنهن في أي (دار) مروراً بالأم والأخوات في تلك الأسرة ووصولاً لكل جدار وصالة وغرفة في (بيت العيلة). وهل سيكون لديهن القدرة على نسيانه بعد إقفاله في وجوههن؟ وقارنت ذلك بنا كأشخاص ونحن نتوجه (لبيت العيلة) بل نسافر إليه في حال أن كان عملنا في مدينة أخرى ونشعر بالحنان إليه بل ونلجأ إلى أسرتنا وكبيرنا أو كبيرتنا في ذلك البيت في حال حدوث شيء ما في حياتنا، وإلى أين ستذهب ابنتنا فاقدة الوالدين في حال كان هناك طلاق!! ولأي بيت تتجه؟ وهذا ما جعلني أُركز في مداخلتي على أهمية المحافظة على بيت العيلة لمن عاشت وتربت فيه ليس فقط في مكة المكرمة وإنما على مستوى المملكة في تلك الدور المخصصة للفتيات.
إضاءة:
دولتنا أعزها الله وفرت لهذه الفئة الغالية كل أسباب الحياة الكريمة من مكافآت شهرية إلى تمكينهن من التوظيف والدعم لتكوين أسر إلى فكرة منازل لهن وأراضٍ وخدمات ومميزات كثيرة نسأل الله أن يجعلها في ميزان حسنات قيادتنا وولاة أمرنا والوزارات والجهات المختصة في القطاعات الثلاثة العام والخاص والخيري.
الخاتمة:
أتمنى من معالي وزير الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية أن يوجه المسؤولين لديه لدراسة الجانب الفسيولوجي لبيت ذلك اليتيم وتلك اليتيمة كما هو الحال مع علاقة معاليه وعلاقتي وعلاقة كل إنسان لبيت الأسرة (بيت أسرتنا أو بيت عائلتنا أو بيت العيلة) ونعود لكبيرنا وكبيرتنا (أمنا وأبونا)، وأن لا نحرمهن (بيت العيلة وأمهن وأباهن) وذكرياتهن وارتباطهن النفسي والاجتماعي به، مستعيراً من عنوان الندوة (نحن أملهم) لأوجهها لمعالي الوزير أحمد الراجحي من بعد إنساني واجتماعي ونفسي وصحي (لن يكون دائماً) ولكنه مؤقت بسنوات (في حدود 30 أو 40 سنة بالكثير) لتلك الفئة التي لم ينطبق عليها مشروع الاحتضان الأسري من خلال (جمعية الوداد) مقترحاً الاستماع لآراء الخبراء والمتخصصين سواء في الجامعات ووزارة الصحة والداخلية وغيرها عن ذلك التأثير النفسي والاجتماعي عليهن فيكفيهن أن يعشنا كل صباح ومساء شعوراً لا نشعر به نحن.
والسلام ختام.
** **
مستشار سياحي وطيران - جدة