د. محمد بن أحمد غروي
عند استذكار المرويات الثقافية والحضارية في العطور، فإننا نستذكر بعض تلك الملامح، التي تُميط اللثام عن بعض مفاصل هذه الصناعة في الجزيرة العربية، حيث تكثفت التجارة خلال العصر العباسي، وامتدت لمسافات طويلة فدخلت الخلاصات العطرية الجديدة في صناعة العطور والأدوية، فيما يُعد المسك المادة العطرية الأكثر شهرة في الحضارة العربية والإسلامية، وأما خشب العود، الذي يُعتبر أفضل البخور في الدول العربية فينمو في غابات جنوب شرق آسيا.
وفي العصور الوسطى، مع سيطرة العرب على الطرق البحرية المؤدية إلى الصين، امتدت المصادر إلى ما هو أبعد من الهند، إلى جاوة وسومطرة وإندونيسيا، وكذلك إلى شبه جزيرة جنوب شرق آسيا - وتتيح لنا النصوص العربية والصينية وحطام السفن الآسيوية توثيق المواد الخام العطرية التي تنتقل على طرق التجارة المختلفة من الغرب إلى الشرق، ومن الشرق إلى الغرب، وهكذا أدخل الكافور والعود والعنبر والمسك إلى صناعة العطور ودستور الأدوية العربي.
وما يتعلق بآسيان، فإن تاريخ صناعة العطور الإندونيسية يعود إلى أوائل القرن السابع عشر عندما أدخل التجار العرب مهاراتهم في هذه الصناعة، التي بدأت تزدهر وتتطور في القرن الثامن عشر، خاصة بعدما أدخل العرب مكونات جديدة كالعود والمسك.
السياقات السابقة، تؤكد الجهد الكبير الذي تقوم به وزارة الثقافة اليوم بقيادة سمو وزيرها الأمير بدر بن عبد الله بن فرحان، من خلال بلورة المنظومة الثقافية محليًّا ودوليًّا، عبر استدعاء البُعد الحضاري والثقافي في «معرض عطور الشرق» في المتحف الوطني السعودي (مستمر حتى 14 سبتمبر 2024)، والذي يُقدم للزوّار فرصة للتجوّل في فضاءات متنوعة تبدأ في المساحات الطبيعية ثم تنقلهم إلى شوارع المدينة ومنها إلى داخل المنزل، لاستكشاف تاريخ العطور وممارساتها في الماضي والحاضر، وأهميتها في الثقافة والتقاليد الاجتماعية الشرقية.
إسهام الوزارة في هذا المعرض يكمن بالدرجة الأولى في صناعة الحالة الفنية والمغايرة من خلال ربط العطور بالثقافة والحضارة الإسلامية بطريقة مبتكرة، وتسليط الضوء على تاريخ الجزيرة العربية باعتبارها مهدًا لحضارة العطور، خاصة إذا استوعبنا بعض الحقائق، حيث لا تزال المياه العطرية تنتج في العالمين العربي والإسلامي، خاصة ماء الورد، ومن أشهر أنواعه ورد الطائف في المملكة العربية السعودية، وورد دمشق (سويا) وورد الجبل الأخضر (سلطنة عمان)، ويتم استخدام هذه الورود في صناعة العطور وكذلك للعناية بالبشرة والطبخ.
مما يُحسب للمنظومة الثقافية السعودية، في «معرض عطور الشرق»، أنها تؤكد من العالم العربي ما زال يحتفي بالعطور منذ الأزل، فمن أرض الجزيرة العربية التي كانت تستقبل المواد العطرية الثمينة وترسلها إلى مجتمعات العالم القديم، لتنطلق معه ثقافة الشغف بالعطور إلى جميع أنحاء العالم العربي، فأصبحت الجزيرة العربية مهدًا لحضارة العطور، لذا فإنها تُشكل في المملكة عنصرًا رئيسيًّا من العادات والتقاليد والتراث الثقافي غير المادي.
المعرض الذي يَتوافق مع الإستراتيجية الوطنية للثقافة التي تعمل تحت مظلة رؤية السعودية 2030، جدير بالزيارة من الجميع من خلال الحصول على التذاكر الدخول عبر منصة اكتشف الثقافة، فهو سيوفر تجربة تثقيفية وتعليمية للجمهور، وسيترافق معه بالإضافة إلى ذلك مجموعة ورش عمل وندوات تسلّط الضوء على مكونّات العطور المختلفة، وتستكشف عملية صناعة العطور وتصميم عبواتها المختلفة.