م.عبدالمحسن بن عبدالله الماضي
1 - أنا مثل كثيرين لا أستمع إلى الإذاعات إلا في السيارة، ويتاح لي في شوارع الرياض المزدحمة أن أستمع إلى الراديو يومياً بما مجموعه ساعتين تقريباً.. وحيث إنني أعمل في مجال صناعة المحتوى فإن أكثر ما يجذبني هو البرامج الحوارية وبالذات برامج الوعظ الديني.. وأعجب كيف أن هناك مصطلحات وأمثال لغوية اقتصر استخدامها عليهم رغم أنه يمكن أن يستخدمها كل متحدث بالعربية لكن لا أحد يقترب منها لأنها مقصورة على الوعاظ فقط مثل: (تلك شنشنة نسمعها من أخزم).. وأعجب أكثر من ذلك الأسلوب الذي يوحي للمستمع أن ما يقوله الواعظ أمر مُسَلَّم به آتٍ من الله تعالى وليس تأويلاً من رجل دين.. كل ذلك يقوله بصوت هادئ يظهر عليه خشية الله فيما يقول.
2 - انجذابي للاستماع إلى برامج الوعاظ في الإذاعات أنطلق فيه من استمتاعي بلعب دور المراقب الممتحن الذي يقيّم الواعظ ودرجة نجاحه في وعظه.. مثلاً: طبقة صوته، وسلاسة أدائه، وقوة معانيه وحججه، وسهولة فهم أمثلته، ومنطقية دعواه، ومناسبتها لزمننا، أو هو فقط يتلو رسالة أتت إليه من خارج الزمن.. ثم إذا نزلتُ من السيارة نسيتُ الأمر كله.
3 - لا أنكر أنني باستماعي لهؤلاء الوعاظ أتقمّص دور الناقد المتصيد المتربص.. والحقيقة أن بعضهم بارعون جداً، ويعون أن مستمع اليوم أكثر وعياً من مستمع الأجيال السابقة، وأن مصادر التلقي تُغْرق مستمع اليوم.. فقد انفجر عالم الاتصال وأصبح في يد كل شخص تجاوز العاشرة من عمره جهاز بحجم الكف يصله بكل علوم العالم وأفكاره ومخترعاته واتجاهاته.. وكلها تقف خلفها جهات ومؤسسات دولية مدعومة غايتها التأثير في كل متلقي.. لذلك لم يعد هناك مكان للواعظ الساذج الذي يلقي العظات كما ألقاها جده، فالزمن غير الزمن.
4 - مقابل الواعظ البارع نجد ذلك الواعظ الذي لم يكتشف بعد أن العالم لم يعد ذلك العالم الذي يتخيله، الواعظ المملوء بوهم الاكتمال والإحساس بالفوقية تجاه العامة.. هذه النوعية من الوعاظ لا يكتفون بالدعوة للرأي الذي يتبعه بل ينتقد الآراء المخالفة، ويدعوك لإعمال العقل في أقوالهم لكنه في ذات الوقت ينهاك عن إعمال العقل في أقواله! أيضاً هو يطرح موضوعه وكأنه محايد ليترك للمستمع الرأي والحكم، لكنه في طرحه يحصر لك كل الأدلة العقلية والنقلية التي تثبت دعواه، ويُغْفل كل الأدلة العقلية والنقلية التي تثبت دعوى الآخر.. فهو في عرضه غير أمين كأقل ما يقال، دون اعتبار لعقل ومعرفة المستمع، وليس من نتيجة لوعظه سوى إثارة الشك وإضعاف الرابط الديني لدى المستمع الشاب.
5 - المحارب الذي يدخل في حرب حديثة بسيفه لا يعود محارباً، بل مختل عقلياً.. وكذلك الواعظ الذي يأتي ببراهين لا تناسب عصره لإثبات حجته لا يعتبر واعظاً بل مهرج لا تضحك منه بل تضحك عليه.