كيف ينظر الإسلام إلى العلاقة مع الآخر؟ وهل يدعو ديننا الإسلاميّ إلى القطيعة مع الآخر أم أنّه يدعو إلى التّعايش معه والانفتاح عليه وصياغة خيوط العلاقة معه؟
بدايةً لا يمكن أن يغطّي الفرد احتياجاته كلّها بنفسه، فيحتاج إلى الأخذ من الفائض المتوفّر عند الآخرين، ويعطي هو بدوره الفائض عن حاجته إلى الآخرين؛ لتحقيق الاكتفاء الذّاتي لكلّ الأفراد عبر هذا التّفاعل المتبادل، ويترافق هذا كلّه مع وجود مجموعة من الأنظمة والقوانين التي تحدّد لكلّ فرد في المجتمع صلاحيّاته، حتّى لا يحصل الانحراف والتّجاوز النّاتج عن التّداخل والتّشابك في المصالح والمنافع بين أفراد المجتمع...
إنّ الإسلام لا يريد للمسلم أن يعيش سجين بيته منعزلاً عن الآخرين، إنّما يدعو أتباعه إلى الانفتاح على الآخرين والتّعايش والتّحاور معهم، لكنّه في الوقت نفسه يريده تعايشاً يحفظ فيه المسلم هويّته من التّلاشي والزّوال، ودينه من الضّياع والانحراف.
إنّ المسلم المحصّن فكريّاً وعقديّاً لا يسمح لعلاقته بالآخر أن تمتدّ إلى نوع من الذَّوبان والانصهار بثقافة الآخر، فالمجتمع الإسلاميّ يرتكز على عناصر الأخوّة الإنسانيّة؛ لأنّ النّاس جميعاً خلقوا من نفس واحدة، كما قال تعالى:{يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا}[النساء: 1]، والمسلمون تجمعهم الأخوّة الدّينيّة، كما في قوله تعالى:{ إنّما المؤمنون إخوة }[الحجرات: 10]
ولبيان أسس العلاقة مع الآخر وقواعدها في ضوء النّظريّة الإسلاميّة والقرآنيّة لابدّ من معرفة إنّ الاختلاف بين النّاس ليس جديداً ولا أمراً طارئاً، إنّما هو آية من آيات الله تعالى، قال تعالى: {وَمِنْ آَيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ }[الروم: 22].
وهو أيضاً تجسيد لمشيئة الله تعالى، قال جلّ وعلا: {ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم}[هود: 118].
والاختلاف إنّما يكون نعمة إذا نجحنا في إدارته بطريقة سليمة، ولقد دعا القرآن الكريم الجماعات البشريّة المختلفة إلى التّعارف والتّحاور، وإنّ العلاقة بين البشر تقوم على أساس التّعارف والتّكامل، وإنّ ميزان الأفضليّة هو التّقوى والعمل الصّالح، وقال تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ }[الحجرات: 13].
وإذا أخذ النّاس بمبدأ التّعارف تبدَّد الوهم والجهل بالآخر؛ لأنّ أكبر عامل للتّمزق والتّناحر بين النّاس هو جهل بعضهم بالبعض الآخر، وعدم وجود مساحات وقواعد مشتركة ينطلقون منها لإدارة الاختلاف.
إنّ الحياة الاجتماعية لا يمكن أن تستقيم أو تستمر إلّا على مبدأ التّعاون والتّعايش وتحقيق العدالة، فالإسلام يرفض الظّلم والتَّعدّي من دون وجه حقّ، وبغضّ النّظر عن هويّة الطّرف المعتدى عليه، قال تعالى:{لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم} [الممتحنة: 8].
وهذه الآية تشمل المسلم والكتابيّ وغيرهما، فإذا كنّا مأمورين بالعدل والبرّ مع المشرك، فمن باب أولى أن نفعل ذلك مع أفراد مجتمعنا.
ومن نافلة القول: إنّ مسيرة الدّعوة الإسلاميّة منذ البداية وللآن تؤكّد على نبذ التّعصّب والتّطرّف وتدعم حرّيّة الرّأي والتّعبير والنّشر، واحترام التّنوع والتّعدّديّة ومشروعية الاختلاف المنضبط بقواعد الاجتهاد؛ لذلك يجب العمل على إقامة الحوارات الثّقافيّة والحضاريّة الهادفة إلى وضع أسس راسخة للتّعايش السلميّ بين الأمم والشعوب كافّة، وتأمين الأمن والاستقرار لجميع النّاس وضرورة توحيد الجهود الإنسانيّة لنبذ التّطرّف والغلوّ والإفراط، والتزام مقوّمات السّلم والوسطيّة والاعتدال في التّعامل مع الآخر.