د.م.علي بن محمد القحطاني
من ولعي وشغفي بالتراث، وثقتي بجهود وزارة الثقافة ممثلة في هيئة التراث وما لمسته من جهود وقفزات مهمة ونتائج تجاوزت العمر الزمني للهيئة وددت أن أساهم ولو باليسير في جهودها المثمرة في الحفاظ على التراث الأصيل للمملكة العربية السعودية ومنها التراث العمراني من خلال المحافظة على المباني القديمة التاريخية والتراثية.
وكلمة حق يجب أن تقال إن ما أنجزته هيئة التراث يتجاوز بكثير عمرها الزمني فهي تسابق الزمن لحصر تراث المملكة والممتد على مستوى المملكة والمنتشر في 13 منطقة، والذي قلّما تجده مجتمعاً في دولة واحدة من دول العالم والمحافظة عليه وتطوير ما هو موجود وليس عيباً أن تكون قد استفادت من إرث سابق قامت به وزارة السياحة ومن قبلها هيئة السياحة ومن قبل هذا وذاك وكالة وزارة المعارف للآثار والمتاحف وإن كان محدوداً بل ميزة حيث تخطت ما كان متبعاً حتى في الإدارة أو الكيان الواحد في حالة تغير المسؤول يبدأ المسؤول المعين حديثاً ليس من الصفر بل من تحت الصفر في ظل غياب خطط إستراتيجية واضحة وأهداف محددة مسبقاً وبرامج زمنية لإنجازها وكذلك المساحات الرحبة للاجتهادات غير المدروسة بلا حسيب أو رقيب.
وإني وإن كنت متأكداً بأن جل ما سأذكره إن لم يكن جميعه أُخذ في الاعتبار إلا أني أود تسليط الضوء على بعض النقاط ومنها: من ثمار إنشاء هذه الهيئة الاهتمام المتزايد والوعي المتنامي بين المواطنين للمحافظة على مباني الآباء والأجداد وخصوصاً في قرى مملكتنا المترامية الأطراف ولكن بطرق يشوبها شيء من القصور وذلك نتيجة الخلط بين المحافظة على الإرث والكنوز القائمة وبين التجديد بنفس الطراز المعماري فالبون شاسع وسيفقدنا الكثير من المباني التراثية القائمة ومنها ما هو تاريخي وكذلك تزايد أعداد المقاولين عديمي الخبرة والدراية, فعلى الرغم من محاولات الهيئة المستمرة وسعيها الحثيث لحماية الثروة الثقافية والمواقع الأثرية والتراثية والمحافظة عليها وإدارتها بفعالية, إلا أن انتشار القرى وكثرتها أمام محدودية إمكانيات الهيئة يحول دون قيامها بعملها على الوجه المطلوب ومن الحلول الناجعة بإذن الله نشر الوعي في تلك المجتمعات والبدء بالمدارس وقيام مسؤولي الهيئة بزيارات لتلك القرى بحيث تتولى المحافظات أو المراكز التمهيد والتجهيز بجمع شيوخ القبائل وأهل الحل والربط لإبراز الوجه الحقيقي لدور الهيئة وجهودهم حيث إن الانطباع السائد لدى تلك المجتمعات أن (الهيئة) ستصادر تلك المباني، وحبذا لو تتوقف عملية تأهيل مقاولي المباني التراثية بالطرق المتبعة حالياً للمراجعة والتقييم حيث أثبتت تجارب العديد من الجهات في تأهيل وتصنيف مقاولين للقيام بمهام معينة كل في مجال عمله فشلها في تحقيق الأهداف المأمولة منها لأنه بمجرد إضافة هذه الشركة أو تلك المؤسسة للمقاولين المؤهلين المعتمدين ترتفع أسعارهم عشرات الأضعاف بدون أن تتغير جودة أعمالهم أو احترافية عمالهم كما أنهم قد يستغلون هذا التأهيل للدخول في أعمال مناطق أخرى لا علم لهم بطبيعتها وخصوصية مبانيها لأن لكل منطقة تراثها العمراني فمباني الطين تختلف عن تلك التي تعتمد على الصخور والحجارة.
كما أن أغلب تلك المباني إن لم تكن جميعها توارثت ملكيتها الأجيال بدون صكوك ملكية وهذه تمثل عائقاً نحو تطوير تلك الدور أو القرى والمحافظة عليها بحرمانها من إيصال التيار الكهربائي لها نتيجة تمسك شركة الكهرباء بأوامر سامية للحد من التعديات نتيجة تفسير خاطئ منها لتلك الأوامر من المفترض ألا تطبق أنظمة المخططات الحديثة داخل المدن العصرية ليشمل هذه المباني وهذا خطأ فادح فهذه المباني لم تكن في يوم من الأيام تعدياً على أملاك خاصة أو عامة فمنها ما بني منذ مئات السنين أي قبل إنشاء شركة الكهرباء أصلاً بل إن هذا الإجراء كمن يحاول تطبيق اشتراطات الأطفال عن دخول المدرسة مثل (إثبات أنه بلغ الست سنوات وأكثر وشهادة تطعيم شلل الأطفال) على كبار وكهول مدارس محو الأمية أيامها، ولتجاوز هذه العقبة لابد للهيئة التأكيد على هذه النقطة وإيضاحها بل الحصول على تسهيلات واستثناءات إضافية لأجل ذلك ومعاملتها معاملة خاصة باستصدار تنظيم خاص بها يحدد الخطوط العريضة الواجب التمشي بموجبها على مستوى المملكة.
أما في المدن والتي عادة ما تكون تلك المباني والدور في وسط البلد حيث ترتفع أسعار الأراضي لتصل عشرات بل مئات آلاف الريالات وتصبح هدفاً سهلاً للبعض لإزالة تلك المباتي للاستفادة من الأراضي وبناء الأبراج والعمارات الحديثة المرتفعة مكانها للدخل الخيالي والعوائد المالية المرتفعة وأبسط تلك الأسباب أن المبنى آيل للسقوط أو افتعال حرائق ليسقط المبنى ويكون الحريق بسبب التماس كهربائي وهذة في مباني مكة المكرمة والمدينة المنورة وجدة وعدد من محافظات الساحل الغربي والتي تتميز برواشينها الجميلة المصنعة من الخشب.
لذا فإنني أتقدم بهذه المقترحات من واقع خبراتي العملية السابقة في مواضيع وأمور مشابهة بل في فترة زمنية كنت في موقع المسؤولية وما واجهناه في سبيل المحافظة على ما تبقى من آثار وتراث في المدينة وما لمسته من صراع وحرب شرسة تواجه هذا المشروع للعديد من الأسباب ويأتي الجهل بأهمية التراث ووجوب المحافظة على رأسها.
وحيث إن من المعتاد في مثل هذه الإشكاليات تشكيل لجان في كل منطقة تتكوّن من عدة جهات حكومية من ضمنها هيئة التراث والتي بمجرد قبولها لهذا المقترح فإنها تتجرد من صلاحياتها التي كفلها لها النظام فعصر اللجان ولّى وانتهى فنحن في زمن الشفافية والوضوح, باختصار نحن في زمن الرؤية فاللجان تختلف قراراتها حسب توجه أو قناعة أعضائها أو أحد أعضائها بما يتميز به من نفوذ.. سلطة.. قوة شخصية.. فتؤثر قرارات فرد على آراء وقرارات المجموعة ولا نغفل جانب التكتلات والتحزبات داخل اللجنة.
من أهداف رؤية المملكة 2030 الطموحة ترسيخ وتعزيز مفهوم الحفاظ على التراث العمراني ونقله للأجيال القادمة، وتشجيع الاستثمار فيه بمشروعات إعادة تأهيل وتجديد وتطوير مواقع التراث الوطني. واقتراح خطط واستراتيجيات وتشريعات التراث المستدام وكيفية الحفاظ عليه وعرض مستوياته وتوثيقه ودراسة تطوره التاريخي. ومن أهم المبادرات في هذا المجال: «برنامج خادم الحرمين الشريفين للعناية بالتراث الحضاري للمملكة»، ومشروع الأمير محمد بن سلمان لتطوير المساجد التاريخية وعليه فإن الرؤية المستقبلية في دور التنمية الحضرية المستدامة للتراث العمراني في المملكة رؤية متفائلة وتساهم في أن تجعل التراث العمراني يربط ماضينا بحاضرنا ومستقبلنا. فمنذ إطلاق رؤية المملكة 2030 برز على ساحة المشهد الاقتصادي والثقافي اهتمامٌ جديدٌ بملف الثقافة والتراث السعودي وهو ما نتج عنه محركٌ اقتصاديٌّ وجاذبية جديدة للاستثمارات لتشكل قيمة مضافة للاقتصاد السعودي فضلاً عن تعزيز هوية الموروث السعودي التي تحولت إلى صناعة جديدة مستدامة.
وأتمنى أن يؤخذ في الاعتبار حماية هذا التراث في أوقات الأزمات والكوارث مثل الأمطار الغزيرة والسيول وتعزيز استراتيجيات إدارة مخاطر الكوارث الفعالة في حالات الكوارث وحالات الطوارئ.
** **
- مستشار وخبير إدارة كوارث وأزمات