جانبي فروقة
تحظى تطبيقات الذكاء الاصطناعي في المجالات العسكرية باهتمام كبير، حيث تستثمر الدول بقوة في أنظمة الأسلحة المتطورة والمراقبة والقدرات السيبرانية، وبالمقابل فإن الإمكانات التحويلية للذكاء الاصطناعي في تعزيز السلام لا تزال موضع تجاهل إلى حد كبير. واليوم بدأ يدرك بناة السلام إستراتيجيات مبتكرة ويدركون إمكانات الذكاء الاصطناعي كأداة قوية في التغلب على كل التعقيدات بناء رؤى مبتكرة تذلل كل العقبات تفضي للوصول إلى تسويات.
اليوم وفي ظل تفاقم الصراعات الجيوسياسية والاقتصادية من أوكرانيا إلى غزة إلى السودان إلى ليبيا واليمن والتوترات في بحر الصين الجنوبي وغيرها وإلى جانب الكوارث الطبيعية وحالات الطوارئ الإنسانية والهجرة يمكن للذكاء الاصطناعي أن يساهم في صنع السلام من خلال استخدامه في الكشف المبكر عن النزاعات والتنبؤ بها، حيث يمكن للذكاء الاصطناعي تحليل كميات ضخمة من البيانات من مصادر متعددة مثل وسائل الإعلام الاجتماعية، والأخبار، والتقارير الميدانية، للكشف عن المؤشرات المبكرة للنزاعات. وكما يمكن للتعلم الآلي تحليل الأنماط والتوجهات التي قد تشير إلى تصاعد التوترات أو العنف وقد قامت منظمة الأمم المتحدة بالتعاون مع شركة «Microsoft» بتطوير نموذج للذكاء الاصطناعي لتحليل البيانات من وسائل الإعلام الاجتماعية والتنبؤ بمناطق النزاعات المحتملة. هذا النموذج يساعد في الكشف المبكر عن التوترات السياسية والاجتماعية ويقدم توصيات للاستجابة السريعة، وكمثال آخر يقوم نظام الإنذار المبكر بالعنف والآثار (VIEWS) بقيادة جامعة أوبسالا من السويد ومعهد أبحاث السلام في أوسلو، بتحليل مجموعات بيانات واسعة النطاق لتحديد العلامات المبكرة للصراعات، وتوفير تنبيهات في الوقت المناسب لاتخاذ التدابير الوقائية. وفي حالات مثل نظام هلا في سوريا، أثبتت الإنذارات المبكرة التي يحركها الذكاء الاصطناعي إنقاذ الأرواح. وقد مكّن نظام هلا فرق الإنقاذ من الاستعداد عند اقتراب الطائرات الحربية، مما خفف الضرر أثناء الضربات الجوية.
كما يمكن أن يساهم الذكاء الاصطناعي مفيدًا بتبسيط مفاوضات السلام من خلال تحليل البيانات الشاملة، وتحديد الأنماط، وتقديم رؤى قيمة لتعزيز عملية صنع القرار، والمساهمة في حل النزاعات بشكل أكثر فعالية. ففي ليبيا مثلاً، أشركت الحوارات الرقمية التي ييسرها الذكاء الاصطناعي 1000 مواطن، مما أدى إلى الإجماع وتشكيل حكومة مؤقتة في غضون أربعة أشهر. علاوة على ذلك، يساعد تحليل المشاعر المعتمد على الذكاء الاصطناعي في فهم روايات الصراع، مما يسمح للممارسين بالعمل على وقف التصعيد وتغيير الروايات السلبية. ويستخدم برنامج قوات حفظ السلام في الأمم المتحدة اليوم الطائرات بدون طيار المجهزة بتقنيات الذكاء الاصطناعي لمراقبة المناطق المتنازع عليها وتوفير معلومات دقيقة حول الأنشطة العسكرية والتحركات مما يسهل مهام قوات حفظ السلام في تطبيق الاتفاقيات وتحقيق الاستقرار. وفي مجال مكافحة التطرف والعنف تطور المنصات باستخدام الذكاء الاصطناعي خوارزميات تحلل البيانات وتكشف الأنشطة الإرهابية والمحتوى التحريضي وتقدم حلول التدخل الموجه للحد من تأثيرها والذكاء الاصطناعي اليوم يساهم في تعزيز التنمية الاقتصادية والاجتماعية مما يقلل من الأسباب الجذرية للنزاعات من خلال تحسين التعليم والرعاية الصحية وإدارة الموارد وخلق فرص عمل جديدة وتحسين جودة الحياة وكمثال اليوم تستخدم مبادرة «Precision Agriculture for Development» في الهند الذكاء الاصطناعي لتحسين الزراعة وزيادة الإنتاجية مما يعزِّز الاستقرار في المجتمعات الريفية كما توفر «Google» توقعات الفيضانات العملية للحكومات والمنظمات المحلية المعنية بالمساعدة والأشخاص المعرضين للخطر من خلال دمج نموذج ذكاء اصطناعي يتنبأ بكمية المياه المتدفقة في النهر مع نموذج آخر يتنبأ بالمناطق التي ستتأثر ومدى شدة التأثير. تقدم «Flood Hub» توقعات للفيضانات حتى سبعة أيام مقدمًا، بالإضافة إلى توفير التنبيهات في الوقت الحقيقي. يساعد هذا النظام في حماية الأرواح والممتلكات في أكثر من 80 دولة، بما في ذلك المناطق الضعيفة والقليلة البيانات.
ورصد تقرير نشرته ماكينزي مؤخراً كيف يمكن للذكاء الاصطناعي أن يصبح جزءًا أساسيًا من الحلول التي تعود بالنفع على الناس والكوكب من خلال رسم خرائط الابتكارات والتأثير على أهداف التنمية المستدامة التي وضعتها الأمم المتحدة «Sustainable Development Goals (SDGs)» وتتألف أهداف التنمية المستدامة من 17 هدفًا و169 غاية تهدف إلى تحسين الحياة في جميع أنحاء العالم وحماية الكوكب. لكن وحسب ماكينزي فإن تحديث الأمم المتحدة لعام 2023 بشأن التقدم المحرز نحو تحقيق أهداف التنمية المستدامة أشار إلى أن العالم يسير على الطريق الصحيح لتحقيق 15 % فقط من أهداف التنمية المستدامة وهذا يعني بالأرقام أن 2.2 مليار شخص ما زالوا يفتقرون اليوم إلى الوصول إلى المياه المأمونة والنظافة الصحية؛ ويفتقر 3.5 مليار شخص إلى إمكانية الوصول إلى خدمات الصرف الصحي المُدارة بشكل آمن؛ ويعيش ما يقرب من 3.3 مليار شخص في بيئات معرضة بشدة لتغير المناخ؛ و750 مليونًا يواجهون الجوع.
يقول المؤلفان برانكا بانيك والدكتورة بيج آرثر في كتاب «الذكاء الاصطناعي من أجل السلام» إن تكنولوجيا السلام التي تعتمد على الذكاء الاصطناعي يمكن أن ينظر إليها على أنها قوة محتملة من أجل الخير في البلدان التي مزقتها الصراعات من أجل «صنع السلام»، ويسلط كتابهم الضوء على الطرق الملموسة التي يتم استخدام أدوات الذكاء الاصطناعي لدعم السلام وليس الحرب ويحذر الكاتبان أن تكنولوجيا السلام المدعومة بالذكاء الاصطناعي يجب أن تخضع لمجموعة جديدة من المبادئ الأخلاقية والقانونية لمنع استخدام البيانات كسلاح والتحيز وغير ذلك من التهديدات وأن السلام يحتاج لبناة السلام من البشر الذين يفهمون صنع السلام وحل النزاعات وكيفية تعزيز التنمية الاجتماعية والاقتصادية ويمكن أن نسعى نحو مستقبل تتلاقى فيه التكنولوجيا والإنسانية لتعزيز السلام الدائم.
** **
- كاتب مقيم في الولايات المتحدة الأمريكية