د. محمد بن إبراهيم الملحم
أتحدث اليوم عن القصة من حيث تكوينها السردي وحبكتها أو حبكاتها بادئاً أولاً بتناقضات ظهرت في شخصية جاسم (أو أبوفرحان) «المثقف» وأبوفرحان الحائك البسيط الذي سبقه غيره إلى الوظيفة ولم يقتنع بعد بها وهو ما لا يتصور لشخص مثقف! كما أن الطريقة التي تعامل بها مع زوجته التي يحبها ويعتز بها وبأمانتها فيخوّنها بسرعة ويتطرف في عقوبتها بطردها ليلاً لا يتناسب مع شخصية مثقف مثله ولا مع شخص عاشق لزوجته يحلف برأسها! بل إنه ضرب صاحبه في الظهران عندما تفوه بكلمة واحدة فقط نحوها! ربما يفعل ذلك أمثال أبوعيسى فقط ...، أما هروبه إلى جبل القارة وعمله في الفخار بكل ما فيه من مشاهد هو نقله مسرحية مفتعلة لا تناسب جو القصة، كما أن الصورة السوريالية التي ظهر بها في بداية الهروب توحي أن القصة ستتركنا عند تلك اللقطة ولن تعود لأبي فرحان فلقد جُنّ الرجل وانتهى أمره هنا، بينما تتطور القصة ليأتيه زملاؤه ويقنعوه بالعودة فيعود إلى رشده وهو مآل مناقض للصورة المتطرفة الأولى التي قدمها مشهد الجبل الموغل في اليأس، لذا تشعر أن سوريالية المشهد أقحمها أحد ما رغم أنف أصل القصة، وهذا توقع تحليلي من عندي فلم أطلع على أصل الرواية، وأما إن كانت في أصل رواية القصة فهي نشاز مزعج.
سكوت أم فرحان عن الدفاع عن نفسها في لحظة ثورة غضب أبوفرحان لتتركه يطردها هي حيلة قديمة في تكوين حبكة للقصة تقلب موازين الأمور وتجلب التشويق وتحدث الحراك في سرديتها، وتكررت كثيراً في بعض الأفلام المصرية القديمة أو المسلسلات، وهي حيلة الكاتب العاجز عن تكوين حبكة بطريقة ذكية مقنعة وصنعة روائية ماهرة ليتحول الحب إلى كره والمودة إلى عداوة، تحولٌ مداره على موقف حواري لا حوار فيه أصلاً وإنما اتهام من طرف وسكوت الطرف الآخر عن الدفاع وبيان الحقيقة، وهي حيلة العاجز يلجأ لها الكاتب ليتمكن من تعقيد أحداث القصة وقلب أمورها رأساً على عقب بما يمكنه من السير فيها على نحو مغاير تماماً لتوقعات القارئ مما يستحضر عنصر «الدهشة» ويكسر الملل ويشد الانتباه من جديد، ومع أن المشاهد يتساءل بوضوح عن سر سكوت ذلك الطرف عن الدفاع عن نفسه إلا أن المخرج «عايز كدا» أو ربما الكاتب «عايز كدا» ليصنع حبكة مفتعلة، وهذا ما حصل في حادثة الانقلاب الكبير في أحداث هذه القصة بطرد جاسم زوجته ليلاً متهماً إياها بالخيانة وخرجت صامتة دون أن تدافع عن نفسها أو تبيان الحق (ليخبره به ابنه لاحقاً) كما أن شخصيتها تنقلب تماماً لتتزوج أسوأ شخصية بعد أن كانت زوجة لأطيب شخصية! وليست مجرد زوجة ألجأتها الحاجة وضعف حيلة أخيها الذي أغراه أبوعيسى بالمال وفتح له محلاً ليزوجه إياها، بل هي تظهر زوجة محبة له تعتني به وتنافس زوجاته على محبته، دون أن تقدم لنا القصة أحداثاً أو وقائع أدت إلى هذا التحول غير المنطقي!
هناك سقطة أخرى في تناغم أحداث القصة عندما اكتشف أحد صبيان أبو موسى أن البشت الذي يرتديه بداح هو من البشوت التي يفترض أنها احترقت لتبدأ قصة محاولة اكتشاف أن هناك من سرق البشوت وأحرق مجلس أبو موسى لصناعة البشوت أي أن البشوت لم تحترق في ذلك الحريق كما ظنوا، ولذلك فإن أحد صبيان أبو موسى يحقق في مسألة بشت بداح في القيصرية ليكتشفه «حيدر» صبي أبوعيسى (حيدر) ويشك في أمره فيذهب يخبر أبا عيسى بالخبر والمفارقة هنا أن حيدر هذا لا يعلم عن جريمة أبوعيسى في حرق مجلس أبوموسى فالسر محصور مع زامل ورويشد فلماذا دخل عليه الشك وبادر بإبلاغ أبي عيسى! لا سيما أن صبي أبوم وسى لم يقل أثناء تساؤله مع تجار القيصرية أنه «يشك» في حرق أبوعيسى لمجلس أبو موسى! وإنما قال إن البشت من ضمن البشوت التي احترقت في المجلس ويريدون معرفة من قام ببيعه، وهذا غير كاف لتوليد اهتمام حيدر بالموضوع!
هذه المفارقات العجيبة والضرورات المكشوفة تقلل من هيبة العمل الدرامي وقيمته الأدبية، ويواجه الناقد مثل هذه المفارقات في كثير من الأعمال السينمائية العربية، ومنهم من أطلق عليها «استغباء المشاهد»، ومع الشكر لكاتب القصة وجهوده في سرديات القصة الأساس (وكثر خيره) فقد قام بدوره ضمن إمكانياته فالرجل لم نعرفه روائياً أو كاتب أعمال أدبية مخضرم يملك أدواتها القياسية، ولذلك فإنه عند تحويلها لعمل درامي فينبغي للمخرج أن يتعامل مع هذا الأسلوب المستهلك في افتعال حبكات مكشوفة بمعالجته عبر ورشة عمل من كتاب القصة السعوديين المحترفين (وما أكثرهم) وأجزم أن لديهم تصرفات أفضل لجعل الحبكة أكثر إقناعاً وأبعد عن النمطية المكشوفة، ولذلك عتبي على من أنتج العمل في المقام الأول وليس على كاتبه.