هناء الحمراني
في الثمانينيات الميلادية من القرن الماضي أفرد فان دالين فصلين في كتابه (مناهج البحث في التربية وعلم النفس) لدعم الباحثين حول كيفية التعامل مع المصادر المطبوعة، ومهارات العمل في المكتبة. وبالرغم من أهمية الكتاب وقيمته العلمية، إلا أن هذين الفصلين أصبحا من التاريخ.
فالتغيرات التقنية وانتشار الإنترنت وأجهزة الحاسب الآن، أدت إلى ظهور المكتبات الرقمية، والتي تضم عددًا ضخمًا من الأبحاث بمختلف اللغات، كما أن التحول الرقمي وصل إلى قطاع المكتبات كما هو مشاهد الآن في مكتبة الملك فهد الوطنية التي تعمل بشكل متدرج إلى رقمنة الرسائل الجامعية، وتيسير وصولها عبر وسائل التواصل كالواتس أب، وفق شروط محددة.
ليس ذلك وحسب، فالتقنية كرست نفسها لخدمة البحث العلمي، وأوجدت حلًّا للتضخم المعرفي بإنشاء مواقع وتطبيقات تقدم العلاقات والترابطات بين الأبحاث، وتطبيقات تزود الباحثين بالمستخلصات التي يريدونها، وأخرى تساعد على إعادة صياغة النصوص، وتطبيقات لتمثيل البيانات والجداول بطرق احترافية وجديدة.
وعلى مستوى المعالجات الإحصائية للبيانات، فإن تطور التطبيقات الإحصائية ومشاركتها في بناء أنظمة تشغيل الذكاء الاصطناعي وقيام الشبكات العصبية الاصطناعية على مبادئها، وخوارزمياتها، ساعد الباحثين في تحليل البيانات الضخمة، ومكّنهم من اختبار عدد كبير من المتغيرات في البحث لدراسة العلاقات فيما بينها، والتنبؤ بدقة عالية بمخرجاتها.
وفي العامين الأخيرين ظهر الذكاء الاصطناعي التوليدي بتطبيقاته المتنوعة والتي أصبحت في متناول كل من يمتلك جهازًا ذكيًّا، وإنترنت، ولديه أبسط أبجديات استخدام التقنية والقدرة على القراءة، مما جعله الشغل الشاغل، من حيث موثوقية معلوماته، والحدود الأخلاقية للتعامل معه، والطريقة الفعالة لاستخدامه والاستفادة من منافعه، ومدى خطورته في انتهاك البيانات الشخصية، والقضايا ذات العلاقة بالعدالة والمساواة وتكافؤ الفرص بين الجميع في استخدامه.
وإلى جانب التوجّس العالمي من الذكاء الاصطناعي التوليدي، فإن كثيرًا من المتخصصين في مجال البحث العلمي يشاركون الآخرين في تخوفهم، حرصًا منهم على دقة المحتوى، ونزاهة الباحث في الوصول إلى المعلومة، وعدم انتهاك حقوق الملكية الفكرية للآخرين، أو سرقة جهودهم.
ولأجل ذلك أصدرت منظمة اليونسكو في 2023 وثيقة إرشادات استخدام الذكاء الاصطناعي في التعليم والبحث، وأكدت الوثيقة على ضرورة تجاوب الدول في وضع سياسات واستراتيجيات توجه استخدامات الذكاء الاصطناعي التوليدي لخدمة الإنسانية، وتعزيز القدرات البشرية من أجل مستقبل شامل وعادل ومستدام، سواء كان ذلك من خلال تضمين أخلاقيات الذكاء الاصطناعي التوليدي في مجال التعليم والبحث في الوثائق الوطنية المعنية بأخلاقيات الذكاء الاصطناعي بشكل عام، أو بناء وثائق مستقلة متخصصة في هذا المجال.
وأوضحت الوثيقة اللوائح التي ينبغي الالتزام بها من قبل الهيئات التنظيمية الحكومية، ومقدمي أدوات الذكاء الاصطناعي التوليدي، والمستخدمين المؤسسين، والمستخدمين الفرديين، بما يمكن وصفه بالمعايير التي يضمن توفرها الاستخدام الأخلاقي، والآمن، والمنصف، والهادف، وتؤكد الوثيقة على ضرورة بناء القدرات البشرية لتمكين الباحثين من توظيف الذكاء الاصطناعي بطريقة فعالة، وأن يكون لهم دور إيجابي في تصميم استخدامه. وفي المملكة العربية السعودية ممثلة بالهيئة السعودية للبيانات والذكاء الاصطناعي (سدايا) تم إصدار وثيقة مبادئ أخلاقيات الذكاء الاصطناعي عام 2023، والتي اشتملت على سبعة مبادئ هي: النزاهة والإنصاف، الخصوصية والأمن، الإنسانية، المنافع الاجتماعية والبيئة، الموثوقية والسلامة، الشفافية والقابلية للتفسير، المساءلة والمرونة، والتي انعكست في الوثيقة على دورة حياة الذكاء الاصطناعي كاملة والتي تبدأ بالتخطيط والتصميم، ثم تهيئة البيانات، ثم البناء وقياس الأداء، ثم التطبيق والمتابعة.
ولكي يكون للجهات دور فاعل في تطبيق المبادئ، فإن عليها المشارَكة في تطوير استراتيجية أخلاقيات الذكاء الاصطناعي المعمول بها، ومراجعة خطة الأخلاقيات، وتقديم التحسينات المحتملة، تحت مظلة سدايا.
وبقراءة متأنية لهذه الوثيقة، نجد أنها مرنة وقابلة للانعكاس على استخدامات الذكاء الاصطناعي التوليدي، كما أنها تفتح المجال للجهات المعنية بالتعليم والبحث لتطوير استراتيجياتها ومواءمتها مع خطة الأخلاقيات، لوضع القواعد اللازمة لضبط وتوجيه استخداماته، بما يحقق المستهدفات الوطنية، ويحمي البيانات الشخصية، وحقوق الملكية الفكرية، ويعزز النزاهة، والقدرة على النقد واتخاذ القرار.
إن الذكاء الاصطناعي التوليدي أداة من عدة أدوات جاءت لتدعم البحث العلمي، وتعزز التصور القائم بالعلاقة الوطيدة بين التقدم التقني، والتحول الرقمي، والإبداع والاحتراف في مجال البحث والتطوير والابتكار، والذي بتطوره، وتوظيفه في اتخاذ القرارات، وتطوير الممارسات، يحقق التنمية والاستدامة على مستوى الوطن.