سهوب بغدادي
«اللي ماله أول ماله تالي» من الأمثال الشعبية الرائجة بشكل واسع في مناطق عديدة، ويماثلها بعض الأمثال الأخرى التي تحمل ذات المفهوم على اختلاف التعبير والمصطلحات المستخدمة، فالإنسان الذي لا يملك ماضياً لا يملك حاضراً، ويطبق هذا المفهوم في (أُطر) عديدة في حياة الإنسان، فالماضي لبنة الأساس نرتكز عليها في حاضرنا ونوظفه لبناء مستقبلنا-بإذن الله القدير- هناك تاريخ ومخطوطات وكتب وذكريات ووصايا تذكرنا بأمجادنا الزاخرة بالعلم والمعارف والحضارة، ولكن، كيف برائحة أن تنقلك من حاضرك إلى ماضيك؟ لقد حصل ذلك معي خلال معرض عطور الشرق الذي انطلق في المتحف الوطني السعودي في مركز الملك عبد العزيز التاريخي في العاصمة الرياض، برعاية من وزارة الثقافة وعناية هيئة المتاحف، لقد انتهزت الفرصة لكي أدخل المتحف الوطني وأتلقى الشرح الوافي من المرشد الأستاذ علي، من ثم انتقلت إلى جناح المعرض، بدايةً لم أكن متحمسة بالشكل الكافي لفكرة معارض العطور لما نرى فيها من ازدحام كل عام، أما هذا المعرض قد غير نظرتي في مفهوم معارض العطور، وجعلني أرفع سقف توقعاتي منها مستقبلًا، حيث تأخذك جنبات المعرض من جناح العطور السامية والسخية وصناعتها وتجارتها في شبه الجزيرة العربية، وصولًا إلى كونها رمز حي يعكس ثقافتها وكرمنا وحفاوة ضيافتنا، وشرح لي المصور الفوتوغرافي والمرشد السياحي عبدالرحمن الدغيلبي أندر القصص وحكايا الورد الطائفي، فيما تتنوع العطور عبر الحقب والأزمنة من عطور طيبة الطيبة إلى العطور الفرعونية وتوليفاتها، كما تتداخل الروائح العطرية ومكوناتها في أمور أخرى كالمطبخ، والزينة في المبلس «عقود الفل والياسمين» وغيرها، عندما عرجت في مطلع المقال على الانتقال إلى الماضي، لم أقصد بها المعنى الصرف، إنما قصدت بها الانتقال بالحالة الذهنية إلى الماضي، وكان الأمر شخصيًا بحق على عكس التوقعات، بعد لقائي بإحدى أساتذتي في الجامعة، التي لم أرها منذ 13 عامًا أو ما يزيد.
لقد عدت إلى ذاتي القديمة وتذكرت واستذكرت معها مشكورة أجمل المحطات السابقة، وها هي اليوم تعبر لي عن مدى سعادتها وفخرها بطالباتها وبعمق الرسالة التي أدتها على أتم وجه، فتقدمت بالشكر لمعلمتي والكاتبة الأديبة «مدام داليا سعودي» على ما علمتني خلال السنوات الغضة من حياتي، من صغائر الأمور و ما يرادفها، وأستدل على الدوام من خلال كلامي وكتاباتي بكلمة علمتنا إياها، والتي أطرتها بين قوسين في بداية المقال، كما فاجئني الحنين إلى صديقة الدراسة التي كانت معنا في تلك الفترة، أفنان العسعوس -رحمها الله- وحزنت قليلًا ثم تأملت في مكونات العطور أمامي ووجدت كلمات جميلة على سبيل المثال لا الحصر «عنبر وريحان ومسك وزعفران» فقلت في نفسي جعلها الله في جنات الفردوس الأعلى وروح وريحان ونزل كريم، بعدها توجهت إلى مخرج المعرض والتقيت صدفة بإحدى الزائرات القديرات اللاتي تعمل مع إحدى صديقاتي المقربات خلال الست سنوات الماضية «أمل» التي تعد بمثابة الأخت الكبرى ومرشدة من نوع آخر -رعاها الله- والتقيت بعدها بنخبة من الإعلاميين الذين أعادوني إلى واقعي، قد تفرقنا الأماكن والأزمنة ولكن تجمعنا الذكرى الطيبة العطرة، حقًا، إنها ذاكرة العطر، وهذا ما حدث معي كتجربة، وبالتأكيد سيختبر كل شخص تجارب تختلف باختلاف ماضيه وتاريخه، إلى جانب التجربة الصريحة للمعرض.