رقية نبيل
أنت لست حُرًّا؛ لأنك أسير نفسك أسير تصرفاتك وأفعالك وما اقترفته يداك خلال ساعات النهار!
وأنا ممددة على فراشي وقبل أن يغيب وعيي وأنزلق في النوم انسابت فجأة من خلايا مخي أغنية كنت قد سمعتها مرة في أول النهار ولم أفكر بها بعدئذٍ وما أذكر حرفًا منها ولو سألتني عن اسمها ما استطعت إجابة، لكنها لدهشتي انسابت حرة تسبح في ذهني بعد أن انتصرت على عنصر الوعي مني، هكذا فتحت عيني فجأة وأنا أدرك من جديد وللمرة الألف كم نحن أسرى أفعالنا.
القاعدة بسيطة : ما تفعله في الدنيا تحصده في الدنيا، نعم أنت ملاقيه في الدار الآخرة، لكن هذا حتمي، هذا بديهي، هذا معروف، لكن ما لم أعرفه إلا مؤخرًا هو أننا لابد وأن نصطدم به أولًا في حياتنا هذه، وهذا أمر لو تعلمون مخيف لأقصى حد!
تخيل أن قراراتك التي ولدت من اختيارك الشخصي الخاص دون أي تدخل هي في الواقع نتيجة مباشرة لكل صغيرة وكبيرة سبق واخترتها ووقعتْ بين دفتي ماضيك بالفعل، لماذا ترهبني هذه الفكرة؟ لأن الأخطاء مالم تُمحَ، مالم تُراجع، ما لم تُنقح، ما لم يُتاب منها ويُندم عليها ستحدث ضررًا جسيمًا في نسيج الروح، شرخًا عظيمًا في جدار القلب لا شفاء منه، وحينما أقع في الخطأ التالي أو أنزلق في حفرة جديدة أو تبدر من لساني الكلمة التالية التي أعلم أنني سأندم عليها، أفكر، آه هذا ذنب الأمس! نكتة بيضاء في القلب ونكتة سوداء، وكل نكتة تنطبع ولا سبيل لمحوها، والصفحة التي تتشرب كل هؤلاء هي مجموع الإنسان الذي هو أنت، عثراته وبَعْثراته وحسناته وسيئاته. ترعبني الفكرة لأني أعلم أنه إذا ما مُدّ لي عمرٌ ووصلت إلى العجوز مني فلن تكون تلك إلا ابنة شبابي، سمعت الصالحين كثيرًا يقولونها «حفظنا الله في شبابنا، فحفظنا في شيخوختنا»، ألّا تملك قرار نفسك اليوم هو أمر مخيف، خاصة أن الذي يملك هذا القرار ويتحكم كلية بخيوطه هو شخص يستحيل استحضاره من الماضي، شخص ولّى وانتهى ولا سبيل لتعديل اختياراته، لا سبيل لوعظه أو نصحه، لا سبيل لإخباره أن عمره محدود وأن كل قرار سيتخذه هو قرار مصيري، عظيم الأهمية، حتى لو كان أغنية تافهة اختار سماعها أو كتابًا سخيفًا قرر إنفاق بضع سويعات من عمره بين صفحاته.
كنت أتسامر مع أبي كعادتنا، كان يقول لي من ضمن حديث طويل شرعنا فيه «كان ابن مالك يحتفظ بشمعة بجوار سريره، حتى إذا ما خطرت له فكرة وهو نائم سارع للاستيقاظ وتدوينها، حتى وهو نائم كان عقله لا يكف عن العمل»، ابتسمت وقلت له «كتب ستيفين كينج مرة قصة كاملة على مناديل الحمام، فيما دون محمود درويش رائعته خبز أمي على كرتون سجائره الفارغ»، هنا علقت أمي بينما نظارة القراءة الخاصة بها فوق أنفها ومصحفها ذو الغلاف السماوي المزركش مفتوحٌ كالعادة بين يديها «كل شيء ينفق فيه الإنسان عمره يلتصق بها ويصبح ويمسي وهو على ثغره لا يكاد يفارقه، حينما أستغرق في مراجعة سورة ما لا تغادر ذهني قط، فتكون آخر ما أسمع قبل نومي وأول ما يحييني فور استيقاظي».
هكذا الأمر بسيط، إنك حينما تخطئ تكن أنت أول من يعاقب على هذا الخطأ، أول ما يفسد يفسدك أنت وأول ما يسوّد صفحتك أنت، ألأجل هذا تعود الذكريات؟ تنخر كل لحظة يقظ كنت وكل دقيقة سهاد؟ ألهذا تجد بعض المسنين مصرّين على إثمهم وما عاد بينهم وبين ملك الملك إلا بضع خطوات؟ فالذي يحركهم ليس يد أو قدم ولكن ما كان منهم حين شبابهم.
في النهاية كل شيء واقع تحت رحمة خالقه، لكن حتى القصص التي تحكي عن عجوز أسلم أو تاب قبيل موته أيقن أن وراء هذه التوبة الأخيرة آلافًا من التردد آلافًا من الندم آلافًا من رغبة صادقة في العودة، هكذا حتى النية البيضاء لها ثمنها ووزنها وعاقبتها في هذا العالم.