د. عبدالحق عزوزي
...ما أحوج حكماء الأديان اليوم إلى استعادة روح «حلف الفضول» التاريخي، وإحياء قيمه الإنسانية العظيمة، لتعزيز السلم في العالم، ونشر ثقافة التعايش، ونبذ العنف والكراهية، والسعي من أجل مصلحة الإنسان في كل مكان أو زمان، وتعزيز روح السلام المستدام في العالم. فالقرآن الكريم يدعونا دائماً إلى التعاون فيما هو خير وبر. ذلك أن الله سبحانه وتعالى إذا كان قد أراد الناس مختلفين، وخلقهم شعوباً وقبائل لكي يتعارفوا، وإذا كان قد أمر المسلمين بالتعاون مع بعضهم البعض ومع غيرهم في البر والتقوى، ونهاهم عن التعاون في الإثم والعدوان، وإذا كان الأصل أنه في غير حالة العدوان على المسلمين أو فتنتهم في دينهم أن يكون البر والقسط هو اليد التي يمدها المسلمون إلى غيرهم، إذا كان الأمر كذلك فإن الطريق يغدو مفتوحاً أمام المسلمين للاشتراك مع غيرهم في «حلف فضول» جديد لإسعاد البشر وإقامة عالم يسوده السلام والمحبة والمنافع المشتركة. وحلف الفضول هو ذلك الذي عقده وجهاء قريش في الجاهلية لنصرة ضعفائهم، وامتدحه النبي محمد صلى الله عليه وسلم قائلاً أنه لو أدركه لالتحق به. وحري بالمسلم أن يحذو حذوه في مد اليد لكل من يريد إقامة ذلك العهد المنشود.
إذن حلف الفضول كان قد عقد في الجاهلية، ولم يكن مبنيّاً على أساس ديني ولا عرقي، بل التأم جميع رواده على مكارم الأخلاق والقيم النبيلة المشتركة بين بني الإنسان؛ ولذلك زكاه الإسلام وأشاد به، وهو موقف شرعي متجدد متى تجددت الحاجة إليه، فالدعوة إلى حلف فضول جديد تنبني على مقدمتين أولاهما، الوعي المشترك لدى العقلاء بالمأزق الذي غدت البشرية تعيش فيه، بسبب عجز النموذج الحضاري المعاصر الذي انخرطت فيه الإنسانية جمعاء، عن تلبية آمالها في الازدهار والاستقرار، وثانيهما: القناعة بوجود قيم إنسانية مشتركة. إنها القيم الكونية التي لا تختلف فيها العقول، ولا تتأثر بتغير الزمان، أو محددات المكان، أو نوازع الإنسان، لأن لها منابت وأصولاً تحفظها من عوادي الدهر وتعسفات البشر.
ثم إن التواصل الذي ننشده كان قد تحقق داخل المجتمع الإسلامي على مدار التاريخ، وله شواهده الكثيرة. وما كل الفسيفساء التي تتوزع على أرجاء العالم العربي والإسلامي إلا دليل على أن كل آخر حفظت له الدولة الإسلامية كرامته وحقه في المشاركة والبناء. ويعرف الباحثون جيداً أن الحضارة الإسلامية لم تقم على أكتاف المسلمين وحدهم، وإنما كان لغير المسلمين إسهامهم المقدر فيها، سواء كانوا يهوداً أو نصارى. ويعرف هؤلاء جيداً أن المسلمين ما فتحوا بلداً إلا وأبقوا على كل مكوناته الثقافية والاجتماعية كما هي، على العكس تماماً مما فعله الأوربيون الذين لم يسمحوا لغير ديانتهم، وأحياناً مذهبهم البروتستانتي أو الكاثوليكي، بالبقاء في البلاد التي يحكمونها.
أما أن كل محاور يشعر صاحبه بأن كلا منهما في موقع سواء مع صاحبه، من حيث تحري الحقيقة، التي لا تتجلى إلا بالتمحيص والمراجعة والبرهان، وهذا أسلوب فعال في استمالة المحاور إلى التفكير الموضوعي، والقرآن الكريم هو أول من أصل هذه القاعدة الحوارية في أكثر من موطن. فمن ذلك قوله تعالى: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} (24) سورة سبأ، وقوله تعالى: {قُل رَّبِّي أَعْلَمُ مَن جَاء بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} (85) سورة القصص، وقوله تعالى: {قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِّنْ عِندِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} (49) سورة القصص. وبهذا يؤكد القرآن أن في مقدمة أخلاقيات الحوار انطلاقه بالنسبة للجميع من مبدأ نصرة الحق، وتحري الحقيقة، مهما كان مصدرها، بكل تجرد ونزاهة. والتسامي عن الأنانية والأهواء، التي تحجب العقل عن التماح الحق، أو تزج بالمرء في المكابرة والجحود.
وأخيراً فأهداف حلف الفضول الجديد، يجب أن تتضمن صناعة جبهة من العلماء ورجال الدين للدعوة إلى السلام ورفض استغلال الدين في النزاعات والحروب، وتزكية العقود المجتمعية وتأصيل المواطنة الإيجابية، واحترام جميع المقدسات الدينية، وتزكية المعاهدات الدولية الرامية إلى إحلال السلام وتعزيزه، وإحياء القيم وإرساء الفضيلة، والعدل وحفظ كرامة الإنسان والوفاء بالعهود، وهي مجتمعة قيم الإسلام الحقيقية التي تحقق العدل وتتصدى للكراهية والظلم وتبني ولا تهدم، تجمع ولا تفرق.