د. جمال الراوي
كثيرًا ما نسمع مصطلح «فقدان الأعصاب» أو «ثوران الأعصاب» أو «هيجان الأعصاب»، وغير ذلك من تعابير، يقصد بها انفلات الرقابة على الجسم، فتبدأ الأعصاب بإعطاء تنبيهاتٍ شاذة، فتتوتر العضلات، وتنتفخ الأوداج، وقد ينفلت اللسان، ويطلق عباراتٍ وكلماتٍ بذيئة، بعد أن كان الجسم هادئًا، والأعصاب باردة، فجاءها شيء يحرضها لتصبح منفلتة وهائجة!!
وتشبه الأعصاب حصانًا، يركبه أحد الفرسان؛ لكنه -على حين غفلة- يهيج لسببٍ ما، وقد يرمي الفارس من فوق ظهره، وقد يؤدي إلى إصابته بجروح وكدماتٍ أو ربما كسور!! وكذلك الحال مع انفلات الأعصاب، فقد تسبب الأذى لصاحبها، لأن ثورانه وفقدانه لأعصابه يجره لارتكاب أفعالٍ شنيعة، خاصة وأنه تنفلت -عادة- من فمه كلماتٍ قبيحة، خزنها في ذاكرته، واكتسبها من محيطه الذي تربى فيه؛ فتخرج في هذه اللحظات المنفلتة، ليكون وقعها كارثيًا، فتؤدي لحصول مشاحناتٍ وخصوماتٍ، لا يحمد عقباها!!
ويقال عن فلانٍ بأنه غضوب؛ أي: سريع الغضب، يحتد بسرعة، ولا يستطيع التحكم بتصرفاته، رغم أن الموقف لا يستوجب ذلك، لأن طبعه ميال لحسم الأمور حالًا دون تأخير، طبيعته لا تحتمل الجدال والنقاش، وسيلته -على الدوام- العراك والكلمات النابية، فلا تعود هناك من طريقة للتفاهم معه، وإيقاف هياجه وثورانه، لأنه ينفس عن غضبٍ محتقن داخل صدره!!
وبالمقابل؛ تجد إنسانًا آخر هادئ الأعصاب، صدره واسع، لا ينكمش ولا يضيق بسرعة، ويتحمل الإثارة والحماس من غريمه، ويسكت عليه طويلًا، لأن لديه قدرة تحملٍ كبيرة، وسعة بالٍ، وحكمة طاغية على تصرفاته، يستعملها في المواقف المثيرة، ويستفيد منها في امتصاص غضب الآخرين وصد ثورانهم.
بعض الذين يفقدون أعصابهم، هم من الذين يحملون في أنفسهم طبعًا سوداويًا، ومن الذين لا يرون الدنيا إلا من منظورٍ قاتم، يتوقعون الشر دائمًا، وينتظرون أسوأ النتائج، لذا تجد أحدهم متوترًا، ولا يستطيع التحكم بأعصابه، لأنه يرى الدنيا سوداء من حوله، كلما جاءته إثارة بسيطة، يتخبط ذات اليمين وذات الشمال.
وقد قامت دراسات علمية كثيرة حول فقدان الأعصاب، ووجدت بأن سببها قد يعود إلى الجهد والتعب والضغوطات التي تتعرض لها الأعصاب، وقلة الراحة والهدوء، عدا عن الأوضاع المضطربة من حول الشخص، يضاف إليها طبيعة الشخص الفاقد للرزانة والهدوء، لأنه يفكر -دائمًا- بعضلات جسمه ولسانه، بسبب فراغ مخزونه العقلي من الحكمة والأناة، لأنه عاش في بيئة لم تعلمه سوى كلمات السوء والفحش، وعلمته أن البذاءة وسلاطة اللسان هي الرجولة، ولأنه من الذين يشعرون بانتقاصٍ في كرامتهم، إذا جعلوا الحكمة سدًا يمنعهم من فقدان الأعصاب.
وقد امتدح الله تعالى هؤلاء الذين يتحكمون بأعصابهم بقوله: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} (آل عمران:134)، كما وردت أحاديث شريفة تدعو إلى عدم الغضب، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من كف غضبه كف الله عنه عذابه، ومن خزن لسانه ستر الله عورته، ومن اعتذر إلى الله قبل الله عذره» (السلسلة الصحيحة للألباني)، وفي حديثٍ آخر: «إنكم لا تسعون الناس بأموالكم ولكن يسعهم منكم بسط الوجه وحسن الخلق» (ضعيف الجامع للألباني)؛ أي: أن الحلم والصبر على أذى الناس، يأسرهم ويجعلهم أكثر انقيادًا من صرف الأموال عليهم، وهذا ما لا يفهمه البعض، الذين يظنون بأن صرف الأموال على الناس، يزيد ولاءهم، ويسهل السيطرة عليهم، بينما الصبر على احتجاجاتهم وغضبهم والإصغاء لهم، هو السبيل الوحيد لكسب قلوبهم.