أ.د.صالح معيض الغامدي
كتبت ذات مرة تغريدة قلت فيها إن «السيرة الذاتية تكتب عن الماضي في الحاضر للمستقبل». فسرد الماضي واستعادته هو المكون الرئيس للسيرة الذاتية، فهو نقطة الانطلاق لأي حياة فردية والجذور المكونة لشجرة العمر، تمتد فيها وتترسخ، لكي تنمو ويقوى عودها لتقاوم كافة التغيرات التي تطرأ عليها من الطفولة حتى الشيخوخة أو الوقت الذي تكتمل هذه التجربة الحياتية فيه، أو يعتقد أنها كذلك. وهذا الماضي الذي تسرده السيرة الذاتية عادة ما يكون مزيجاً من الذكريات والتجارب المعيشة بكافة أنواعها، ومن تأثيراتها في صاحب السيرة وقت حدوثها وما بعده حتى وقت الكتابة.
وهذا يسلمنا إلى حقيقة مفادها أن الحاضر يلعب دوراً رئيساً في تشكل الماضي في السيرة الذاتية، فالحاضر هو الزمن الذي يقرر فيه الكاتب لسبب أو لآخر كتابة سيرته الذاتية ابتداءً، وهو الزمن الذي يحدد الطريقة التي تسرد بها قصة الحياة، وطبيعة التجارب الحياتية التي تسرد، والتي لا تسرد أيضاً، والحاضر هو الذي يحدد زاوية الرؤية التي تسرد به السيرة وكذلك القراء المستهدفون لهذه السيرة أو تلك، وربما يحدد أحياناً الطريقة التي ينبغي عليهم تلقي السيرة وفقاً لها.
أما حضور المستقبل في السيرة الذاتية فيمكن النظر إليه من عدة زوايا لعل من أهمها زوايتان، هما زاوية الكاتب وزاوية المتلقي. فكاتب السيرة الذاتية عندما يكتب سيرته الذاتية فإنه يقوم في الحقيقة باكتشاف أو بإعادة اكتشاف ذاته، فيقف على تجارب عديدة مر بها، يستعيدها ويتأملها ويؤولها ويقيمها، ولا شك أن ذلك قد يقوده إلى شق طريق مختلف أو محسن عن الطريق الذي سلكه في حياته الماضية، وقد يسعى إلى استدراك بعض الأمور أو استبدالها أو مراجعتها، طلباً لتحقيق أكبر قدر ممكن من معرفة ذاته وتحقيق أقصى درجة من درجات الرضا عنها أو التصالح معها، وكل ذلك يتم عادة في الفترة الزمنية المستقبلية التي تلي كتابة السيرة الذاتية.
أما فيما يتعلق بالمتلقي، فإنه يحاول الإفادة مستقبلاً من السير الذاتية التي قرأها بطرق عديدة لا مجال لحصرها هنا، ولعنا نشير إلى بعضها فقط. فقد يتخذ بعض المتلقين كاتب السيرة الذاتية قدوةً، أو نموذجاً يحتذى ويسعون إلى التغيير في مجريات حياتهم وفقاً لذلك، وقد تدفعهم السير الذاتية إلى شق طريق مهني أو فكري مختلف في الحياة لم يفكروا فيه من قبل، كما أنهم قد يوظفون السير الذاتية في التعاطي مع بعض المشكلات الحياتية التي تواجههم. هذا بالنسبة للقراء بشكل عام، أما القراء الذين تربطهم بكتاب السير الذاتية روابط معينة مثل الأبناء والأحفاد والأقارب عموماً، فإنهم يفيدون من سير أقربائهم الذاتية أموراً أخرى، إضافة إلى تلك التي ذكرناها آنفاً، فهي تربطهم بأصولهم وأنسابهم وشجر أسرهم وتاريخ تلك الأسر والعائلات، وهي أمور تتصل اتصالاً وثيقاً بذوات وهويات هؤلاء الأقارب وتمنحهم إمكانية التعرف على ذواتهم بصورة أكبر مما تحقق لهم من قبل.
وختاماً، أعترف بأن هذا الموضوع واسع متشعب، ولكني اكتفيت هنا بذكر أهم أبعاده التي تتناسب مع المساحة الممنوحة هنا لكتابة هذه الزاوية.