أ.د. محمد خير محمود البقاعي
عدت إلى سانت إيتين لقضاء ما تبقى من العطلة في سكن الجامعة، وفي هذا الوقت، استرعى انتباهي مقال في الموسوعة الفرنسية L›Encyclop?dia Universalis كان المقال للناقد والمفكر الفرنسي الكبير رولان بارت Roland Barthes 1915- 1980) بعنوان: نظرية النص La théorie du texte فبدأت بقراءته وكان نصاً في غاية الصعوبة أشفق علي زميلي الفرنسي من قراءته ولو علم أني أفكر في ترجمته لتحولت شفقته إلى اتهام بالغرور، قرأت المقال أول مرة فكان مشحونا بالمصطلحات التي كان إيجاد المقابلات العربية في النصف الثاني من الثمانينيات يحتاج إلى بحث وسعة اطلاع كنت بدأت في تحصيلها. قضيت أشهر صيف عام 1995م في السكن الجامعي موزعا وقتي بين القراءة وتمكين معارفي في اللسانيات العامة واللغة الفرنسية عبر القراءة ساعات طوال لا يقطعها إلا الشعور بالتعب أو الجوع. لقد كان علي التفكير بسكن مع بداية العام الدراسي في جامعة ليون الثانية - لوي لوميير، كنت أتردد بين الفينة والفينة على ليون أستطلع إمكانيات الاستقرار لطالب في مثل أحوالي، وجال في خاطري حل يوفر علي بعض صعوبات التأقلم مع المدينة الكبرى عندما علمت أن وثيقة التسجيل في جامعة ليون تتيح لي الاستمرار في السكن الجامعي في سانت إيتين. كانت المدينة الصغيرة بهدوئها واعتدال أسعارها مقارنة بمدينة ليون فضلا عن مكتبتها التي يتوافر فيها كل ما يحتاجه الدارسون أمثالي، قريبة من المطعم الجامعي وما يحيط به من مقاه وبعض المكتبات الخاصة. انقضى شهرا 7 و 8 من عام 1984م، وكان العام الدراسي يبدأ في النصف الثاني من الشهر التاسع كنت أول الواصلين إلى القاعة في اليوم الأول أحمل مسجلتي ودفتري وقلمي، وكان اللقاء الأول مع رئيسة القسم السيدة الدكتورة كاترين كربرات أوريكيوني Catherine Kerbrat Orecchioni أستاذة التداوليات وتحليل الخطاب والتأويل في جامعة ليون الثانية- لوي لوميير (Lumière-Lyon II) ورئيسة قسم علوم اللغة في الجامعة. كان اللقاء الأول لقاء رهبة وتوجيه بلهجة الأستاذة كان الحديث عن الكتب المقررة وآلية الدراسة والاختبارات، وقد أحسست على الرغم من جو الود والكلام الموقّع بفرنسية آسرة منطقاً ومضموناً كنت أستمتع بالاستماع إليه مسجلاً وأعيد كتابته قبل أن تراجعه مرة أخرى زميلة معنا لإصلاح ما يند عني وتحتفظ لها بنسخة تساعد في المراجعة.
من أشهر كتب أوريكيوني التي ترجمت إلى العربية ولقيت رواجا كتابها «المضمر» الذي صدر بالفرنسية عام 1996م وهو ثمرة تجربة طويلة في التداولية وتحليل الخطاب L›implicite, Paris, A. Colin, 1986
ترجمته ريما خاطر وراجعه جوزيف شريم ونشرته المنظمة العربية للترجمة بيروت 2008م. وكان يتولى تدريسنا في البرنامج أيضا فضلا عنها وعن أستاذي البروفسور أندريه رومان أستاذ اللسانيات العربية والبروفسور أنور لوقا أستاذ تحليل الخطاب العربي كوكبة من الأساتذة الفرنسيين أذكر منهم السيدة ذوغولدمان M. De Goldman والأستاذ الدكتور Mr. Boisson بواسون ومن أساتذتنا أيضا أستاذ لا تغيب عن الذاكرة الساعات الجميلة المفعمة بذكرى الأيام التي قضيناها بصحبته في دروس كان الإجماع منعقدا على قربها من العقل والنفس في البلاغة والتداولية إنه البروفسور ميشيل لوغورن Michel le Guern
(1936-2017) صاحب الكتاب الذي يعد أيقونة البلاغة الغربية «الاستعارة والمجاز المرسل» الذي ترجمه إلى العربية حلاج صليبا وراجعه هنري زغيب، ونشرته دار عويدات لبنان 1988م. ولست أدري لمَ استبعد المترجم والمراجع كلمة سيمنتيك وهي ما يعرب علم الدلالة؛ أحد فروع علم اللغة ويبحث في دلالات الألفاظ والتَّراكيب وتطوُّر هذه الدِّلالات. وسماه بعض المترجمين « الدلاليات» أقصاها المترجم والمراجع دون مسوغ
من عنوان الكتاب L? Sémantique de la métaphore et de la métonymie 1972م. كانت دروسه منابر علم ومعرفة فلسفية ولغوية وكيف لا وهو المتبحر في فلسفة الفيلسوف الفرنسي الكبير بليز باسكال Blaise Pascal (1623-1662) وناشر أعماله الكاملة.
وتنبع أهمية الكتاب وريادته من معارضته بوادر التعارض التي بدأت تترسخ آنذاك بين النص الأدبي واللسانيات، وهو محاولة لترسيخ الإجراء الأسلوبي وبيان الجماليات الأدبية في النصوص. كانت دروسه مضمار معرفة ومحرضا على التفكير وانفتاحا على الحوار. كان تجاوز هذا العام الدراسي مفتاح النجاح والطريق المعبد لبلوغ الهدف المنشود. مر الوقت سريعا، ووجدت نفسي على أبواب الامتحانات وقد توطدت العلاقة بالطلاب والأساتذة وسكرتيرة القسم التي كانت متعاطفة كل التعاطف لما لحظته من اهتمام وقلق وحلت أيام الامتحان التي قضيتها في ليون على قلق كأن «الريح تحتي». ولم أغادر ليون وكنت أقضي الليل في غرفة صديق ترك لي غرفته في سكن الجامعة لسفر طارئ. وبدأت نتائج الامتحان تظهر تباعا وأنا وبعض الزملاء في البهو أمام مكتب السكرتارية الذي تسارع السيدة إلى إعلانها بوجهها البشوش وفرنسيتها المنتقاة ولما اكتملت النتائج وتحقق النجاح أحسست بشيء من الوهن وفتور الهمة بعد استنفار استنفد الطاقة. حمدت الله وسارعت إلى محطة القطار بعد أن تركت مفتاح سكن صديقي حيث أوصاني بوضعه. وصلت سانت إيتين وهرعت إلى سكني وبعد حمام ساخن تمددت على السرير ونمت ساعات وكأنني من عمال المناجم في نهاية يوم عمل شاق. صحوت في اليوم الثاني وزففت الخبر إلى من يهتمون لأمري وبدأت أجمع متاعي للانتقال إلى ليون ليكون صيف 1995م فرصة للاقتراب من الأساتذة والاستفادة من المكتبة الضخمة العريقة. كان الصيف فرصة لمتابعة إنجاز ما كنت بدأته من ترجمة وقراءة؛ لقد كانت المكتبة تحوي كنوزا من الكتب، وفيها عرفت مجلة الاستشراق الفرنسي أرابيكا Arabica ومجلة الدراسات الأسيوية Journal asiatique التي تصدر عن الجمعية الآسيوية الفرنسية منذ عام 1822م. ومجلة الجمعية الشرقية الألمانية المعروفة اختصاراً بالرموز ZDMG، وغير ذلك من نوادر الكتب. وانصب اهتمامي على العثور على موضوع بحث يكون متناسبا مع اختصاصي الذي أوفدت بموجبه (النقد الأدبي الحديث). انقضت شهور الصيف والتقيت في بداية العام الدراسي بأستاذي الدكتور أنور لوقا الذي أثنى على امتحاني في تحليل الخطاب العربي وكان منصبا على تحليل نص من كتاب (قوانين الدواوين) للأسعد ابن مماتي المصري (544هـ/1149م - 606 هـ/ 1209 م) واقترح علي موضوعا لم يخطر لي أن أتجاوزه إلى غيره بعنوان «السرد والأسلوب في كتاب الأيام لطه حسين» ويكون بإشرافه. وعلمت منه أنالجزء الأول مترجم إلى الفرنسية ومنه نسخة عربية في مكتبة الجامعة ومن الترجمة الفرنسية التي ترجمها الأديبان جان لو سير
Jean Lecerf, وغاستون فيت Gaston Wiet. وقدم له الأديب الفرنسي المشهور André Gide
(1869-1951) أندريه جيد وصدر عام 1947م. وطلب مني قراءات في الأسلوبية والسرد ووضع خطة للبحث على وجه السرعة، تم الأمر خلال مدة وجيزة وتولى مراجعته وإبداء بعض الملاحظات أستاذي كما قرأه البروفسور أندريه رومان وأبدى ملاحظاته أيضا. أخذت كل ذلك في الحسبان وقدمت النسخة التي وقعها الأستاذان وأوصلتها إلى السكرتيرة التي تولت أمر توثيقها إداريا وأرسلتها إلى شؤون الطلاب للتسجيل. تم الأمر وشعرت بكثير من الأمان والتفاؤل وأنا في السكن الجامعي الذي كانت له سمة المنتجع بأشجاره الكثيفة ومياهه الغزيرة وموقعه المرتفع الذي ترى من نوافذ غرفه المنظر البانورامي الباهر لمدينة ليون. وتعرفت في هذه السنة على حشد من الطلبة السوريين الموفدين لصالح الجامعات السورية وغيرهم من الطلبة العرب والأجانب. وفي السكن الجامعي عرفت أول طالب سعودي لم أعد أذكر اسمه كان جاري في الغرفة وأهداني نسخة من أحد دواوين الشاعر صاحب السمو الملكي الأمير عبد الله الفيصل آل سعود. وأذكر أني قرأته وعاد معي الديوان بعد زمن إلى مكتبتي في حمص. وعرفت بعد ذلك سعوديا آخر في الجامعة هو الدكتور حسن مراد القحطاني الذي كان مسجلا في برنامج ال DEA وكانت لي معه قصة طريفة؛ فقد كان حب التراث يرافقني كامنا وأنا في خضم الدراسات الحديثة توقظه أحاديثي مع أستاذي البروفسور لوقا ومع البروفسور رومان ومع أستاذ آخر هو الدكتور حسن حمزة وهو لبناني فرنسي أعد رسالة دكتوراه الدولة عن النظرية النحوية عند الزجاجي بإشراف البروفسور رومان وعين أستاذا في جامعة ليون الثانية. وعلمت حينئذ بصدور قسم يقع في 10 مجلدات من كتاب: «تاريخ التراث العربي» لفؤاد سزكين (1924-2018م) مترجماً إلى العربية في جامعة الإمام محمد بن سعود 1411 - 1991م. وكنا لا نعرف من نظائره إلا كتاب الألماني كارل بروكلمان Carl Brockelmann (1868- 1856 م) «تاريخ الأدب العربي» فأوصيت الزميل حسن باقتناء نسخة من الترجمة فقبل جزاه الله خيرا وحملها معه من جدة إلى ليون وكانت لحظة استلامها مشحونة بالفرح واعتكفت يومين على القراءة فيها. وبعد حين عدت إلى رسالتي واستكملت ما طلب مني أستاذي قراءته وحضوره من دروس في الأسلوبية وتحليل الخطاب، وبعد خمسة أشهر صرح لي ببدء التحرير ومراجعته أسبوعيا بما أنجز كنت أعرض ما أكتب قبل وصوله إلى يد أستاذي على جار لي في السكن الجامعي، كان شخصية عجيبة يدرس الفلسفة، معجبا برئيسه النغالي الشاعر والمفكر وعضو الأكاديمية الفرنسية ليوبولد سيدار سنغور Léopold Sédar Senhor؛ (1906-2021م) أول رئيس للسنغال (1960-1980م) وكان دياغا سن يقرأ علي أشعاره بكثير من البراعة والتذوق. ومن الطريف أنني اشتريت مرة أرنبا جاهزا لطبخه وكان قطعا فلما أصبح جاهزا مع الخضار دعوت صديقي فأكل واستحسن الطعم ولما انتهينا وبدأ بتحضير الشاي الأخضر على طريقتهم البارعة وبعد أن شربنا سألني عن اللحم الذي أكلناه فقلت إنه لحم أرنب طازج فجاشت نفسه وسارع إلى الحمام وعاد بعد وقت ليس بالقصير وقد اصفر وجهه وقال: سامحك الله لو أخبرتني فسألته عن الأمر فقال إنهم لا يأكلون الأرانب البتة وقال والعهدة عليه إن لقبه «سن» يعني بلغتهم المحلية الأرنب فهو كمن أكل من لحمه فعجبت واعتذرت وقبل العذر لغياب المرجعية عندي كما قال. أنهيت الكتابة والمراجعة وسلمت النسخة للأستاذين لوقا ورومان، وطفقت أنتظر ملاحظاتهما النهائية، ولم يتعد الأمر أياما حتى كانت النسختان لدي وعليها الملاحظات فبدأت بتصحيح ما رأياه وأصبح العمل جاهزا وكان العام الدراسي 1996م قد قارب على الانتهاء وطلب مني البروفسور لوقا إيصال نسخة من الرسالة للبروفسور كاترين كربرات- أوزكيوتي مع نسخة من الترجمة الفرنسية لكتاب الأيام، ففعلت، وبعد مدة يسيرة من أيام الشهر السادس وكان يوم جمعة اتفق الأساتذة على المناقشة التي جرت في جو من الرصانة والإعجاب بالمدونة والدراسة؛ وكان الجميع بانتظار كلمة البروفسور أوريكيوني التي شكرت لي إطلاعها على نص طه حسين مترجما وأبدت بعض الملاحظات العميقة التي دونتها وراجعتها بعد المناقشة على التسجيل. منحت الدرجة بتقدير ممتاز، وكان تجاوز هذه المرحلة أول إنجاز علمي أكاديمي منذ وصولي إلى فرنسا. وما إن أنهيت كل الإجراءات حتى بدأت الاستعداد للعطلة التي يستحقها المبتعث بعد الحصول على ما يعادل مرحلة الماجستير. كيف كانت العطلة والعودة؟ وما تخلل ذلك من أحداث؟