أ.د.عبدالله بن أحمد الفيفي
كثيرًا ما نتَّهم المستشرقين بالطعن في «القرآن الكريم». غير أنَّ من الإنصاف الاعتراف بأن بعض كتب التراث ربما طرحت في صحفها الذرائع تلو الذرائع للطاعنين في الخِطاب القرآني. هكذا زعم مولانا (ذو القُروح)، والعُهدة عليه. فسألته:
- كيف؟
- لقد ابتكروا لنا قِسمة المَكِّي والمَدَني، مثلًا، مع أنه لم يَسمع بها أهل الصدر الأوَّل من المسلمين. ومعلوم أنَّ المستشرقين في العصر الحديث قد جَهِدوا من أجل تحويل «القرآن» إلى كتاب تاريخ؛ فسعوا إلى إعادة ترتيبه، حسب بعض المعلومات عن سياقات النزول، ففشلوا. وظلَّ «القرآن» كتابًا ذا نَصٍّ كُلِّي الدِّلالة، لا كتاب مناسبات، ولا سِجِلَّ تواريخ، أو من قبيل السِّيَر الذاتيَّة. وهو لو كان كذلك أصلًا، لما كان كتاب دِين، بل كتاب دُنيا. ولئن صحَّ الاستئناس بفكرة المَكِّي والمَدَني، وبأسباب النزول، لإضاءة النصِّ من خلال سياقاته، وهذا أمرٌ مسوَّغ نصوصيًّا، بل لازمٌ قرائيًّا، فإنَّ تقييد النصِّ بالحوادث التي جاء خلالها منهاجٌ لا يتَّفق مع طبيعة النصِّ البلاغيِّ عمومًا، فكيف بالنصِّ القرآنيِّ على وجه الخصوص؟! من حيث إنَّ النصَّ البلاغيَّ إنَّما يَضرب المَثَل بشواهد الواقع على نظائر مفترضة في كلِّ زمانٍ ومكان؛ لأنَّه خِطابٌ متعالٍ على الوظيفة الآنيَّة إلى الوظيفة المطلَقة، وعن الدِّلالة العينيَّة إلى الدِّلالة المفتوحة، لتأسيس قياسٍ لا نهائيٍّ. ثمَّ لقد أردف أولئك قِسمةَ «القرآن» إلى مَكِّي ومَدَني بحكايةٍ أخرى، هي حكاية الناسخ والمنسوخ، التي استُغِلَّت أيضًا أسوأ استغلال من قِبل المسلمين وغير المسلمين؛ فأبطلوا حُكم بعض الآيات بحُجَّة المَكِّية والمَدَنية تارةً، وبحُجَّة الناسخ والمنسوخ تارةً أخرى. ومن هذا ما قالوه حول ما قبل الأمر بقتال المشركين وما بعد الأمر بالقتال. وبذا بات الإسلام إسلامَين، إسلامًا مَكِيًّا وآخَر مَدَنيًّا، وإسلامًا سِلميًّا وآخَر حَربيًّا، وإسلامًا ناسِخًا وآخَر منسوخًا! وما هو، في حقيقة الأمر، إلَّا خِطابٌ واحد، ولو كره الكارهون.
- أتراهم لا يفقهون ما فقهتم، يا ذا القُروح؟!
- أجل، يمكن أن تقول هذا! لولا تقديس ما وجدنا عليه آباءنا. وهذه دِيانة (قُريش)، لا دين (محمَّد بن عبدالله). أو قُل: هم لا يستطيعون أن يفقهوا الظروف السياسيَّة أو التاريخيَّة أو المعرفيَّة، وأنَّ لكلِّ سياقٍ خِطابًا، ولكلِّ ظرفٍ ما يناسبه، وتلك سُنَّةٌ في كلِّ تشريعٍ أو نظام أو قانون.
- أراك تناقِض نفسك! ألم تَقُل قبل قليل: إنَّ النصَّ البلاغيَّ إنَّما يَضرِب المَثَل بشواهد الواقع على نظائر مفترضة في كلِّ زمانٍ ومكان؛ لأنَّه خِطابٌ متعالٍ على الوظيفة الآنيَّة إلى الوظيفة المطلَقة، وعن الدِّلالة العَينيَّة إلى الدِّلالة المفتوحة، لتأسيس قياسٍ لا نهائي.
- لا تناقض، يا ابن الذين! فقد قلتُ: لئن صحَّ الاستئناس بفكرة المَكِّي والمَدَني، وبأسباب النزول، لإضاءة النصِّ من خلال سياقاته، وهذا أمرٌ مسوَّغ نصوصيًّا، بل لازمٌ قرائيًّا، فإنَّ تقييد النصِّ بالحوادث التي جاء خلالها منهاجٌ لا يتَّفق مع طبيعة النصِّ البلاغيِّ عمومًا. ففرقٌ بين الاستئناس بسياق النصِّ وتقييده به. من حيث إنَّه لا يصحُّ بحالٍ أن تُدار الأمور على نحوٍ واحدٍ في كُلِّ الأحوال والملابسات، وإلَّا كانت تلك سياسة تحكُّميَّة غبيَّة، فاشلة في التعامل مع الأحداث والمستجدَّات.
- على أقل من رِسلك! بالمثال نفهم المقال.
- من شواهد ذلك الخَطَلِ العجيبِ في التفسير أن تجد موقفهم حيال (الآيتين 14- 15) الواردتين في (سُورة الجاثية)- وهم يصنِّفون السُّورة على أنها «مَكِّيَّة»، ولهذا التصنيف ما له، ووراءه لديهم ما وراءه، سواء لدَى المفسِّرين منهم والطاعنين-: «قُل لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ؛ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ. مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ، وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا، ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ.»
- وأيُّ خِطابٍ أكثر حضاريَّة، وإنسانيَّة، وتسامحًا من هذا؟!
- نعم، ولكن هيهات، لا تفرح! ستجدهم يهبُّون للاستدراك على كلام الله، مسجِّلين في كتبهم- كما في «تفسير الجلالَين»، للسيوطي والمحلِّي، مثلًا- أنَّ حُكم الآية الأُولى إنَّما كان قبل الأمر بالجهاد! أي أنهم يقولون: إنَّه لم يَعُد للَّذين آمنوا من مجالٍ لأن يغفروا لغير المؤمنين، بل أن يقاتلوهم، هكذا، حتى يؤمنوا، أو يَفنى أحد الفريقين، أو كلاهما!
- ومن ثَمَّ أنَّ الآية لم يَعُد لها معنى أصلًا!
- فلِمَ تبقى، إذن؟ أرأيتم كيف يفعل هؤلاء؟! إنَّ بعضهم- والحالة هذه- يقدِّمون مائدة من التناقضات والبلاهات لكُلِّ من هَبَّ ودَبَّ من الطاعنين.
- ألا ترى أنَّه يُضاف إلى مبتكرات العصور المتأخِّرة- من قبيل ما ذكرتم من المَكِّي والمَدَني، والناسخ والمنسوخ، ومن ثَمَّ جَعْل «القرآن» عِضِيْن- إشكالٌ آخَر يتعلَّق باللُّغة العَرَبيَّة؟
- بلى. على أنَّ اغتراب اللُّغة العَرَبيَّة- أمس واليوم- كارثة قائمة بذاتها، وهو صورةٌ عن اغتراب العَرَب والمسلمين، وتخلُّفهم الفكري والحضاري، واستلابهم لغيرهم. أمَّا إضعاف اللُّغة عمدًا، والاستهانة بها، والاستبدال بها غيرها، فمشروع معاصر، يسعى إلى إضعاف العَرَب، فكرًا، وحضارة، وهويَّة. على الرغم من أنَّه من المعروف والمشهود أنَّ من أضعف الإيمان في الاستراتيجيَّات الثقافيَّة والحضاريَّة لدَى الأُمم الحيَّة فرض اللُّغة القوميَّة على الوافد، مثلًا، فضلًا عن المواطن. فهل رأيتم الإنجليز أو الفرنسيِّين يكسِّرون لغتهم من أجل الوافدين؟ أم سمعتم الأمريكان يفعلون ذلك مع الوافد إلى (الولايات المتحدة الأميركيَّة)؟ أو رأيتم أنهم يُلغون لغتهم هم ويتحدَّثون بلُغة الوافد؟
- كلَّا! بل هم يُلزِمون الوافد بتعلُّم لُغتهم، لكي يحيا بينهم بصورة مريحة، وإلَّا فليذهب إلى حيث ألقت.
- وعليه، لكي ينجو من أُمِّ قَشْعَم- أن يحضِّر نفسه؛ بأخذ دورات لُغويَّة مكثَّفة، أو بأيِّ تدابير أخرى ليستطيع التفاهم مع أهل البلد المضيف. أمَّا العَرَب، ولعُقَد نقصٍ حضاريَّةٍ مزمنة، ولأمراض ثقافيَّة بنيويَّة، لدَى المؤسَّسات الحكوميَّة قبل الشُّعوب، فإنَّ الاستراتيجيَّات الثقافيَّة والحضاريَّة الاتباعيَّة تتمثَّل في رفض اللُّغة القوميَّة وتحطيمها ليفهم الوافد. هذا إذا كان شرقيًّا.
- أمَّا إذا كان غربيًّا، فالواجب ترك العَرَبيَّة أصلًا، والرطانة بلسان الغَرَبي، إكرامًا لزرقة عينيه!
- حتى إنك لتلحظ أن العَرَبيَّ بات يخجل من استعمال لُغته، كيلا يُنظر إليه على أنه جاهل أو متخلِّف، أو، لا قدَّر الله، إرهابي، آبق من ربقة سيِّده الأبيض! فتراه يُناضل ما استطاع لإثبات ولائه، لاويًا لسانه بلُغة سيِّده، مهما تمخَّض عن رطانةٍ بليدةٍ سمجة؛ فالمهم من كلِّ شيءٍ أن يحظى بشهادة الانسلاخ، واعتناق لسان الآخَر، وما يتبع هذا من انسلاخات شتَّى!
- بالأمس القريب كان الناس يتندَّرون على من يستعمل كلمة «أوكي»، بدل «طيِّب»، وإنْ كان قد يستعملهما معًا: «طيِّب.. أوكي»، أمَّا اليوم فقد اتسع الخرق على الراقع، وما زال في اتساع، وأمسى الجميع- حتى العامِّي الأُمِّي، الذي لا يقرأ ولا يكتب بالعَرَبيَّة- يستعملون عشرات الكلمات غير العربيَّة.
- والطامَّة الكُبرى أنَّ المؤسَّسات المسؤولة- أو هكذا يُفترَض- تعليمًا وإعلامًا، والمُوْكَل إليها تسمية المرافق والمحالِّ التجاريَّة، قد شَرَّعت ذلك وأجازته، وكأنه لا يعني شيئًا.
- لأنَّ تلك الجهات نفسها، وببساطة، لم تعد تعي ما هي؟ وأين هي؟
- أنت ترى- على سبيل المثال الشَّعبي- كلمة «كافيه» تتبختر في الشوارع العَرَبيَّة العامَّة والخاصَّة، بعرض الوطن العَرَبي وطوله، وتندلق على كل لسان. والطريف أن تسمع العُربان وتقرأهم يجمعون هذه الكلمة جمع مؤنَّث سالم: «كافيهات»! والأطرف أنَّ الكلمة- لفظًا ومعنى- عَرَبيَّة أصلًا، استعجمتْ ثمَّ استُورت! فما كان ليحلو في أذن العَرَبيِّ المستلَب، ولا ليروق له أن يستبدل بـ«كافيه» كلمة «مقهى»، وبـ«كافيهات» كلمة «مقاهي»! هو يشعر بأن الكلمة العَرَبيَّة سُوقيَّة مبتذلة! ولقد كانت بعض المقاهي العَرَبيَّة قبل سنين منتديات أدبيَّة راقية، يرتادها كبار الأدباء وعِلية المفكرين، في (القاهرة) مثلًا، أمثال (نجيب محفوظ) و(توفيق الحكيم)، وأضرابهما. ذلك قبل عهد «الكافيهات». وهذا الاغتراب اللُّغوي ما هو إلَّا مرآة مقعَّرة تصوِّر منحدرنا الثقافي العام الجارف، الذي يتعمَّق بنا عامًا إثر عام. وهي حالة مَرَضيَّة لا تنحصر عقابيلها في وضع كلمةٍ مكان كلمة، ولا في البُعد الاغترابي اللُّغوي فقط.
- سامحك الله، خرجت بنا عن الموضوع! وتلك قضيَّة أخرى. فلنبق في الأولى!
- لم أخرج، بل دخلت. لأننا سنجد أنفسنا مضطرِّين لطرح السؤال الآتي: ما مدى عِلم بعض سلفنا الصالح باللُّغة العَرَبيَّة؟ وسنناقش الإجابة في المساق المقبل.
** **
- العضو السابق بمجلس الشورى - الأستاذ بجامعة المَلِك سعود