عبدالله العولقي
هو أحد أشهر الرسامين عبر التاريخ الإنساني، إنه الهولندي فان جوخ، الذي عاش حياته بصورة فقيرة وبئيسة وكئيبة، لكنه بعد وفاته بيعت لوحاته بملايين الدولارات، لقد كان فناناً تشكيلياً أضناه مرضه النفسي فحاربه بالإبداع وقاومه بالتميز الفني، فقد كان هذا الفنان العملاق يفلسف الأشياء بلغة الألوان، وقد تصادف في حياته بكثير من السخرية واللؤم والسخافة سبب له الكثير من الألم والإحباط، ولكنه استطاع بعد وفاته أن يحظى باحترام وتقدير وإعجاب مؤرخي ونقاد وعشاق الفن التشكيلي في كافة أرجاء العالم، لقد صدرت الكتب والمؤلفات التي تناولت حياته وفنه بكل لغات الدنيا، وألف كثير من النقاد والدارسين والباحثين والأطباء العديد من الدراسات التي كشفت خبايا العبقرية والنبوغ داخل فن فان جوخ وأسدلت الستار عما يعتري سيرته من الغموض والإبهام، وربما كان هذا الشغف العارم به السبب الأول في استمرار نشر واستنساخ لوحاته.
ولد الفنان العالمي فان جوخ في هولندا، ونشأ نشأة عادية لا تنم عن موهبة ولا عن عبقرية، ولكن بدايته الحقيقية كانت مع بلوغه حيث بدأ وجدانه الفني يتمخض عن مقدرة إبداعية لا تضاهيها أي مقدرة، وبالرغم من تعاسته في حياته وعدم شعوره بأي تكريم أو حفاوة إلا أنه تجاهل كل ذلك واستمر طيلة حياته منشغلاً بالرسم الذي كان يمثل له حياته الحقيقية، فكثرة اللوحات الفنية التي رسمها تنم عن مقدرته القوية في مواجهة مرضه التي أضناه في حياته وفي مواجهة مجتمعه الذي لم يمنحه أدنى درجات التقدير والاحترام.
بداية فان جوخ مع الفن التشكيلي مرتبطة مع نشأة مرضه النفسي وحكاية هذا الارتباط العجيب أنه حينما بلغ السادسة عشرة من عمره اصطحبه عمه معه إلى مدينة لاهاي ليعمل معه في القاعة التي يديرها والمتخصصة في بيع اللوحات الفنية، ومن خلال هذا العمل تعرف فان جوخ على عالم الفن التشكيلي، وتحمس لبعض الأعمال الفنية، وتعرف على دقائق وجماليات هذا الفن حتى أصبح متذوقاً بارعاً له ورساماً موهوباً يشق طريقه نحو سماء المجد والشهرة، ولكن الفاجعة كانت عندما أحب فتاة تدعى (أرسيولا)، والتي تعلق بها وهام بها عشقاً وحباً، ولكنه عندما طلبها للزواج لم يجد شيئاً يقدمه لها سوى أذنه فقطعها وقدمها لها كأغرب مهر عرفه التاريخ ! فماذا كانت ردة فعل أرسيولا، لقد غضبت منه، وعنفته وردته بقسوة مما جعلته يصاب بما يشبه ( الهوس الديني ) فأصبح بدلاً من أن يناقش العملاء عن جماليات ومزايا اللوحات الفنية أخذ يحثهم على الدين ويعظهم !، ومن هنا بدأت حالته النفسية بالتدهور، وبعد ذلك فرض على نفسه عزلة من الناس جعلته يصاب بالاكتئاب والوسوسة، لكن الناس لم تتركه في حاله، فقد قدّم عدد من أهالي الحي الذي أقام به بمدينة آرل الفرنسية عريضة طالبوا من خلالها السلطات باتخاذ إجراءات ضد الرسام الهولندي، وقد وقع هذه العريقة حوالي ثلاثين شخصاً، ثم أرسلت إلى عمدة المدينة، وقد طالب الأهالي من خلالها بطرد فان غوخ، وإرساله لعائلته في هولندا أو الزج به داخل مصحة عقلية، مؤكدين أن تصرفاته الأخيرة مقلقة وخطرة، فقد وصفه الموقعون حينها بالمجنون الأشقر، وتحدّثوا عن عدم قدرته على التحكم في أفعاله، وإضافة لكره جيرانه له، وقد تعرّض فان غوخ بعدها لمضايقات من أطفال حيّه حيث عمد هؤلاء لقذفه بالحجارة، بل عمد بعضهم لتسلق نافذته للسخرية منه !، وتقول بعض الحكايات التي نقلت عن هذا الفنان الأسطورة، أنه زار أحد الأطباء النفسيين من أجل متابعة حالته، وعندما طلبه الطبيب أن يدفع أجرة الكشف، منحه فان جوخ لوحة فنية من لوحاته، فوبخه الطبيب ثم طرده من العيادة، وبعدها جاءت زوجة الطبيب لتأخذ اللوحة وتسد بها فراغاً لقن الدجاج، وبقيت هذه اللوحة على حالها لسنوات عديدة، ليكتشفها أحد المهتمين بالرسم والفن، فيأخذها ويبيعها بأموال طائلة !
بعد ذلك، رحل فان جوخ إلى لندن لعله يجد فيها من الجو العليل ما يخفف عنه وطأة الكآبة على نفسه، ولكن وضعه الصحي ازداد سوءاً واضطراباً جعله يلتحق بمعهد ديني حيث تخرج منه واعظاً دينياً لدى عمال مناجم الفحم، ولكن أعراضه النفسية تفاقمت عليه أيضاً فبدلاً من أن يمارس وعظه الديني بدأ بمشاركة العمال آلامهم وأتعابهم فأهدى إليهم ملابسه وأغراضه وطعامه، وظل معهم يعاني من البرد والجوع إلى الحد الذي كان فيه أقرب للموت منه إلى الحياة، وهنا وصلت أزمته النفسية إلى حد المرض العصيب!
كان شقيق فان جوخ ويدعى (تيو) قد لاحظ على أخيه هذه التغيرات الصعبة في حياته فحاول أن يساعده بإعطائه المال ومنحه الفرصة للعيش خصوصاً أنه كان يعي موهبة أخيه الخارقة ويدرك مدى ذكاءه ونبوغه، فألحقه بأكاديمية الفنون في مدينة انفري، حيث تماثل فان جوخ للشفاء وبدأ يرسم الفلاحين الهولنديين وعمال المناج م والبؤساء بكل رشاقة وسلاسة، وبدأ يشعر بشيء من الارتياح والهدوء النفسي، كما أنه بدأ يمارس هواية الكتابة، فكتب حينها رسائل - جمعت فيما بعد في عدة كتب - تضم آراؤه وفلسفته في الحياة والفن وكانت بمنتهى الجودة والتدفق والإبداع ولا تقل بمستواها السامي عن لوحاته الفنية.
وفي إحدى الأيام ازدادت عليه وطأة الجوع وصادف أن مر بجوار أحد المطاعم، فقايض صاحب المطعم أن يعطيه أعظم لوحة له مقابل طبق حساء، فرفض صاحب المطعم هذا العرض وطرد فان جوخ من مطعمه، وبعد وفاته بيعت هذه اللوحة بمائة مليون دولار ! وبعدها، سافر فان جوخ إلى فرنسا مع زميله (جوجان)، وهناك عاودته آلامه ووساوسه النفسية وتوترت أعصابه لدرجة العنف مع نفسه، ومما يحكى عنه في تلك الفترة أنه كان يسهر مع زميله جوجان وفي خضم الحديث الذي دار بينهما، اختلفا في وجهة نظرهما حول مسألة ما، فقام فان جوخ ورمى جوجان بالكأس التي بيده ثم أغمي عليه، فحمله جوجان إلى المنزل وأرقده في فراشه، وعند الصباح شعر بندم عنيف عما بدر منه تجاه صاحبه وشرع يوبخ نفسه ويؤنبها لدرجة الهوس !
وبعدها بفترة تشاجر مع جوجان فأخرج موساً للحلاقة وبدأ يركض وراء صاحبه مهدداً إياه بالقتل، ولكنه عندما عاد إلى بيته وأفاق من نوبة الغضب التي كانت تعتريه بدأ يشعر بحالة تمزق عنيف، وهياج جنوني يعتريه بين الحين والآخر، وهنا ساءت حالته النفسية كثيراً، وحينما رأى شقيقه تيو أن حالة فان جوخ أصبحت حرجة للغاية نقله إلى مستشفى للأمراض العقلية في باريس، وهناك وبمساعدة أحد الأطباء الفنانين استطاع فان جوخ أن يرسم عدة لوحات مهمة، أما مرضه النفسي فبدأ يعاوده بين الفينة والأخرى، وعندما اشتد عليه ذات يوم خرج إلى حقل مجاور للمستشفى وأطلق على نفسه الرصاص ولكنه لم يمت على الفور حيث نقله شقيقه إلى المستشفى الذي مات بها بعد يومين (عام 1890م) وهو لم يتجاوز السابعة والثلاثين من عمره بعد أن رسم أكثر من سبعمائة لوحة فنية وحوالي ألف رسمة فنية.
لقد مات فان جوخ معدماً هزيلاً نحيلاً مهووساً بعد أن طارده المرض سنين عمره القصيرة ثم قذف به في نهاية المطاف في إحدى المصحات العقلية، لم تعرف هولندا ولا فرنسا ولا حتى أوروبا كلها قيمة فان جوخ الإبداعية وقدرته العبقرية إلا بعد وفاته، لقد عاش معدماً فقيراً يعيش أياماً بأكملها على رغيف خبز واحد لا غير، بينما لوحاته اليوم تقدر بملايين الدولارات، واليوم في (أمستردام) العاصمة الهولندية هناك متحف ضخم للفنان المبدع، أما القرية التي سخرت منه واتهمته بالجنون (قرية أوفير سيرواز) وهي إحدى ضواحي باريس وقبره موجود فيها، فإنها تعد اليوم من أهم قرى فرنسا جميعاً وأغناها لكثرة الزوار والسياح الذين يتزاحمون ليلقوا نظرة على قبره، ليصبح هذا المبدع البائس أغنى فنان عرفه التاريخ بعد مماته!