د.إبراهيم بن منصور التركي
اطّلعتُ مؤخراً على كتاب (الطعام والكلام) لمؤلفه الدكتور سعيد العوادي، وقد جاء إلى ذهني تساؤل بمجرد قراءة العنوان عما يمكن أن يُكتب في موضوع يبدو في الظاهر محدوداً كهذا الموضوع. إلا أن الكتاب -وخلافاً لتوقّعي- قد استطاع تقديم دراسة استقصائية شاملة لتجلّيات الطعام والكلام في التراث والثقافة العربية، حيث كشف الكتاب بشكلٍ متميز عن (تغلغل) الطعام في مختلف السياقات الدينية والعلمية والأدبية والثقافية في التراث العربي.
لقد تضمّن الكتاب إضافات علمية نوعية لفتت نظري عند انتهائي من قراءة الكتاب، وقد يكون من المستحيل عرض كل ما تضمّنه الكتاب من محتوى، ولكني سأشير هنا إلى أهم ثلاث أفكار جديدة لفتت نظري في الكتاب.
أما الفكرة الجديدة الأولى التي أشار إليها الكتاب فهي فكرة (الإعجاز الطعامي)، فقبل هذا العنوان لم يكن يدور في ذهني ارتباط فكرة الإعجاز بالطعام، ولكن الكتاب كشف بشكلٍ جليّ كيف أن بعض معجزات الأنبياء التي أعطاها الله لهم ولقومهم هي من الطعام، مثل ما هو معروف عن معجزة (المن والسلوى) لبني إسرائيل، ومعجزة (المائدة) لقوم عيسى عليه السلام، ومعجزة (تكثير الطعام) لنبي الله محمد صلى الله عليه وسلم. إن الكتاب بالحديث عن هذا الأمر قد أضاف جانباً لم يتحدّث عنه كثير من الباحثين في ذكر وجوه معجزات الأنبياء، وهو وجه (الإعجاز الطعامي).
أما الفكرة الثانية التي لفتت نظري في أفكار الكتاب فهي كشف الكتاب عن تسلّل ألفاظ الطعام إلى الحقل العلمي العربي، حيث استعرض المؤلف ذلك من خلال إثباته استلال عدد كبير من مصطلحات العلوم من ألفاظ الطعام. وبحكم تخصصي في البلاغة فقد لفتت نظري إشارة الكتاب إلى أن عدداً من مصطلحات علوم البلاغة والأدب الرئيسة والفرعية مستقاة من ألفاظ مرتبطة بالطعام. فكلمة (البلاغة) مثلاً -وحسبما يذكر الكتاب- مأخوذة من أصل لغوي هو (البلغة، وهي: ما يُتبلَّغ به من الطعام). وكلمة (الفصاحة) مأخوذة في أصلها اللغوي من (اللبن الذي يخلو من الرغوة). كما يذكر الكتاب أن واحداً من أهم المصطلحات التي شاعت قديماً وحديثاً في الدراسات الأدبية والنقدية والبلاغية، وهو مصطلح (الذوق)، مأخوذ في الأصل من تذوق الطعام. ولفظ (الأدب) أيضاً، هذا اللفظ الشهير، قد أُخِذ من كلمة (مأدبة) المرتبطة بالدعوة إلى الطعام. إن هذا الكشف عن استلال مصطلحات العلوم من سياقات الطعام يعدّ واحداً من الإضافات العلمية المتميزة التي كشف عنها هذا الكتاب.
أما الفكرة الثالثة التي كشف الكتاب عنها فهي محاولة تتبّع تجليات حضور الطعام في الأدب النثري العربي، وقد وقف الكتاب عند ثلاثة مسارات رئيسة لحضور الطعام في النثر الأدبي العربي، وهي مسار (الكريم)، ومسار (الطفيلي)، ومسار (البخيل). وهذه المسارات الثلاثة يمكن أن تكون (مجتمعة أو منفردة) محلّ بحث مفصّل في أطروحة علمية متخصصة تقف على تأثير الطعام في مضامين وأشكال التعبير الأدبي التي يسلكها الأديب في كل مسار.
إن الكتاب في نظري يعدّ كشفاً بانورامياً شاملاً لدخول الطعام في كثير من سياقات الثقافة العربية المختلفة، بحيث لم يخلُ مجال من مجالات الحياة اليومية -مثلما أثبت الكتاب- من تسلّل ألفاظ الطعام إلى ذلك المجال. ولعلّ التساؤل الذي جاء إلى ذهني بعد قراءة ذلك العرض الماتع في صفحات الكتاب قد دار حول النظر إلى مدى حضور غذاء (البطن) أكثر من غذاء (العقل) في الثقافة العربية؟ فهل يعدّ حضور ألفاظ (البطن والطعام) في تراثنا (الفكري) أكثر من ألفاظ (العقل والتفكير)؟ ومثلما أثبت البحث تأثير الطعام في (اللغة والكلام) العربي، فهل للطعام تأثير أيضاً في طرائق (التفكير والاستدلال) عند العرب؟
لقد استطاع المؤلف تناول قضية الكتاب ببراعة، حيث عرض أطياف الموضوع وأطرافه وتجلياته المختلفة في الثقافة والتراث العربي، إذ قدّم هذا الكتاب عدداً من الأفكار الجديدة التي تسلّط الضوء على خلفيات الطعام وانعكاساته في لغة الدين والمجتمع والعلم والمعرفة والثقافة والأدب في تراثنا العربي.