جواهر الرشيد
تميَّزَ الأدبُ في العصورِ القديمةِ بالرُّقيّ العقليّ الذي قوَّمَ تراثنَا الشِّعريّ المعتمدَ على القيمِ الأخلاقيَّةِ والإنسانيَّةِ الرَّفيعةِ الممزوجةِ بأسسٍ عاطفيَّةٍ احتذَى بها كلُّ مَن نشأَ وسرَى على ضوءِ الشِّعرِ وورَّثَها أبناءَه حتى خُلِّدَت، فلم تمُت صوتُ الكلمةِ بلحنِها العروضيّ ونغمةِ الإحساسِ فيها ووقعِ حدثِهَا على النُّفوس، فالشِّعرُ يتجدَّدُ بتجدِّدِ الحياةِ البشريَّةِ وإنْ تغيَّرَت العصورُ وتعمَّقَت في القِدَم أو طالَ عليها الزَّمنُ.
كوَّنَ العصرُ العباسيُّ حضارةً قائمةً على قواعدَ ثابتةٍ من التَّوازنِ الوثيقِ بين الثَّقافةِ العربيَّةِ القديمةِ والثَّقافةِ الحديثةِ التي اُستُحدِثَت من حضارةِ الهندِ والفرسِ واليونانِ والأممِ السَّاميةِ. أضفى الشُّعراءُ العبَّاسيُّونَ للمخزونِ العربيّ الموروثِ صورًا جديدةً وعقلًا فلسفيًّا نابغًا بمادَّةٍ وفيرةٍ مُهداةً من بصائرَ حادَّةٍ وعقلٍ واعٍ مع الحفاظِ على شخصيَّةِ الشِّعرِ العربيّ بمقوِّماتِه اللُّغويَّةِ والفنِّــيَّةِ الماثلةِ في معانِيهِ وأغراضِهِ وإبداعاتِه التَّصويريَّةِ، فتزايدَت القصائدُ التي ازدحمَت فيها الحِكَمُ حتى أصبحَت ظاهرةً مميَّزةً ونزعةً عقليَّةً جديدةً بتيَّارٍ ثقافيٍّ قائمٍ على المزجِ بين العقلِ والعاطفةِ.
سادَت الحياةُ الفكريَّةُ ونبغَ العلماءُ والباحثون والنُّقَّادُ، وأمَّا الشُّعراءُ والأدباءُ فما زالَت مكانتُهم رفيعةً عند الحُكَّامِ والأمراءِ، فإنَّ اللَّفظةَ تُقَالُ من مختلفِ الأفواهِ، وتُصاغُ من مختلفِ الأُدباءِ لكنَّ بطائنَ الكلماتِ التي تُغذِّي الألبابَ وتوجِّهُهَا توجيهًا منطقيًّا نحوَ الحياةِ هي مَن تتصدَّرُ الأولويَّةَ في القلوبِ وتمنحُها البصيرةَ وتهديها السَّكينةَ والسَّلامَ.
حَظِيَ أبو الطَّيِّب المتنبِّي بشهرةٍ لم يحظَ به غيرُه من موهبةٍ شعريَّةٍ وذكاءٍ عاطفيٍّ وعقليَّةٍ استثنائيَّةٍ بحذَقتِها وقوَّتِها العلميَّةِ. شاعرُ العروبةِ الذي ملأَ الدُّنيَا وشَغَلَ النَّاسَ، شرُفَ بعروبتِهِ الصَّميمةِ وبنفسِه وفِعالِه، وبعبقريَّتِهِ الشِّعريَّةِ الفريدةِ، وبشجاعتِهِ وبسالتِه التي لم تَرضَ الذُّلَّ على نفسِه ولا على العربِ والتي تؤهِّبُه للنِّزالِ دائمًا؛ لينعمَ بحياةٍ كريمةٍ أو يموتَ موتةً شريفةً.
جنحَ إلى تحليلِ حقائقِ النَّفسِ والحياةِ عن طريقِ جانبِ الحِكَمِ والأمثالِ التي استخلصَها من خبراتِه وتجاربِه الغزيرةِ، فقد عاشَ المتنبِّي تجاربًا صعبةً جعلتهُ يستنتجُ المواعظَ والعِبرَ، ويمتزجُ فيها العظائمَ بالصَّغائرِ، استوعَبَ الحياةَ استيعابًا دفعَهُ إلى أن يجيشَ بخواطرِه مُلمًّا بها مُعبِّرًا عنها بصدقٍ وإخلاص. قالَ عنه اليازجيّ: «المتنبِّي ينطقُ بألسنةِ الحدَثان، ويتكلَّمُ بخاطرِ كلِّ إنسان». كانَ مذهبُه في الحياةِ كمَا قالَ عنه العقَّاد ثمرةَ التَّزاوجِ بين طبعِه وعقلِه.
نهلَ علمَ العربيَّةِ بضروبِها المتنوِّعةِ رغمَ كثرةِ العِداءِ الذي كانَ يلقاهُ من الحسَّادِ. أحزنَه وفاةُ جدَّتِه لأمِّه ورثَاها مرثيَّةً حارَّةً، ولم يرثِ أمَّهُ أو أبَاهُ؛ لأنَّهما تُوفِّيا قبل أن يكبُرَ وتكبُرَ موهبتُه الشِّعريَّةُ، لكنَّه رثَى أمَّ سيفِ الدَّولةِ الذي كانَ المتنبِّي مُخلصًا وفِيًّا له، مُحبًّا صادقًا بمشاعرِه نحوَه، فظهرَت فلسفةُ الحياةِ والموتِ، والوصلِ والفراقِ في مرثيَّتِها، قائلًا:
ومَنْ لـم يعشـقِ الدُّنيـا قديمًـا
ولـكن لا سبيـلَ إلى الوصـالِ
نصيبُكَ في حياتِكَ من حبيبٍ
نصيبُكَ في منامِكَ من خيالِ
لم يكُنْ أبو الطَّيِّبِ متشائِمًا ولا رافضًا للحياةِ ولكنَّه يشعرُ إزاءَها بالحرمانِ الشَّديدِ، وممّا قال معبِّرًا عن واقعيّةِ مجرى الحياةِ وتقلُّبِ صروفِ الزَّمانِ ونوائبِهِ:
لا تلقَ دهرَكَ إلّا غيرَ مكترثٍ
مادامَ يصحَبُ فيه روحَكَ البدنُ
فما يدومُ سرورٌ ما سُررتَ بهِ
ولا يـردَّ عليـكَ الفـائـتَ الحـزَنُ
ما كـلُّ ما يتمنَّى المرءُ يدركُـه
تجري الرِّياحُ بما لا تشتَهي السُّفنُ
جاءت حكمُه في ثنايا قصائدِه متنوِّعةَ القضايا، منسابةَ اللَّفظِ الموصولِ بمرارةِ حقيقةِ الواقعِ مع روعةِ المعنى، ومن أقوالِ حكمِه:
وما الحسنُ في وجهِ الفتى شرفًا له
إذا لم يكن في فعلِه والخلائقِ
وقال: إذا اعتادَ الفتى خوضَ المنايا
فأهونُ ما يمرُّ به الوحولُ
وقال: لولا المشقَّةُ سادَ النَّاسُ كلُّهم
فالجودُ يفقرُ والإقدامُ قتَّالُ
وقال: وكلُّ امرئٍ يولي الجميلَ مُحبَّبُ
وكلُّ مكانٍ يُنبِتُ العزَّ طيِّبُ
أكثرَ أبو الطَّيّبِ من استخلاصِ العِبرِ المتمحورةِ حولَ السِّيادةِ والرِّفعةِ في تحقيقِ المجدِ وتعظيمِ الهمَّةِ رغبةً في الوصولِ إلى المعالي بشجاعةٍ وإن أُصيبَ بفشلٍ وخسرانٍ أو قَنوطٍ ويأسٍ أو خيبةٍ بعد رجاءٍ، قال:
إذا غامـرتَ في شـرفٍ مـرومٍ
فلا تقنع بـمـا دون النّـجومِ
فطعمُ المـوتِ في أمـرٍ صغيـرٍ
كطعـمِ المـوتِ في أمرٍ عظيـمِ
يرى الجبـناءُ أنَّ العـجزَ عقـلٌ
وتلك خديعةُ الطَّبعِ الـلَّئيـمِ
وكـلُّ شجـاعـةٍ في المـرءِ تُغني
ولا مثلُ الشَّجاعةِ في الحكيمِ
وكم من عائبٍ قولًا صحيحًا
وآفتُـه من الفَـهْمِ السَّقـيمِ
ولـكن تـأخـذ الآذانُ منـه
على قدرِ القـرائـحِ والعـلومِ
وصدَق مَن قالَ عن المتنبِّي قولَه هذا: «إنَّ لكلِّ حكمةٍ في شعرِه أصلًا تاريخيًّا في قلبِ هذا الشَّاعر الذي لم يكن قلبُه ينسى شيئًا أو يفلته. وكأنِّي به وهو يقولُ البيتَ السَّائرَ، كانت تتراءى تحتَ عينيه ويدوّي في مسمعَيه كلَّ ما مرَّ به ممَّا أثَّر فيه، فيقولُ البيتَ وفي كلِّ لفظةٍ منه سببٌ ممدودٌ إلى ذكرِها..»