أحمد بن عبدالرحمن السبيهين
وُلد الكاتب «سكوت فيتزجيرالد» Scott Fitzgerald في مدينة «سانت بول» في ولاية «مينيسوتا» في عام 1896، وقد كان طفلاً لامعاً ذكيّاً وطموحاً، وكان سبب فخر والديه وسعادتهم، وكان يتمتّع بخصوبة الخيال؛ وهو ما أسماه ذات مرّة بالحساسية العالية لوعود الحياة، وانخرط في التجربة مصمّماً على تحقيق تلك الوعود.
فالتحق «بأكاديمية سانت بول «، وفي سنّ الثالثة عشرة بدأ بنشر القصص في مجلّة الأكاديمية؛ ومنها «رهان ريموند العقاري» The Raymond Mortgage، وهي قصّة كان مستواها متواضعاً، حاكى فيها أسلوب قصص «شارلوك هولمز»، وأخذ بعد ذلك بتأليف مسرحيات وهو لا يزال طالباً في تلك الأكاديمية.
ثم التحق بجامعة «برينستون» في ولاية «نيو جيرسي»، وفيها كرّس جهوده لتنمية موهبته في الكتابة، حيث كتب النصوص لنادي برينستون الشهير «ترايانجل» Triangle، والمقالات والقصص لبعض المجلّات الأدبية، لكنه أخفق في تحصيله الأكاديمي ولم يكمل دراسته الجامعية.
انضم إلى الجيش في عام 1917، أثناء الحرب العالمية الأولى، وعُيّن برتبة ملازم ثانٍ في سلاح المُشاة، وبسبب خوفه من الموت دون تحقيق طموحاته الأدبية، عاود الكتابة فيما تيسّر له من وقت الفراغ، فكتب رواية تُدعى « الأناني الرومانسي» Romantic Egotist، ومع أن الناشر رفض هذه الرواية، إلا أنه لاحظ موهبته، وطلب منه مراجعة الرواية وإعادة كتابة أجزاء منها.
وعندما انتهت الحرب عام 1918، وتم تسريحه من الجيش انتقل للعيش في «نيويورك»؛ أرض الطموح والنجاح، كما دعاها في إحدى رواياته، ليعمل مع إحدى وكالات الإعلان، مُمنيّاً النفس بكسب ما يكفي لتأمين حياة كريمة، لكن أمله خاب، وقرّر ترك العمل ليقفل عائداً بعد سنة إلى «سانت بول»، ولينكبّ على إعادة كتابة روايته «الأناني الرومانسي»، فأنجزها ليدفع بها إلى الناشر، الذي قبِلها بعنوانها الجديد «هذا الجانب من الجنّة» This Side of Paradise في عام 1920، وهي سيرة ذاتيّة عن الحُبّ والجشع، ونالت الرواية مُراجعات كبيرة، مما حوّل «فيتزجيرالد» وهو في الرابعة والعشرين من العُمر إلى واحد من أكثر الكُتّاب الشباب الواعدين في البلاد.
لقد أصبح شخصيّة أدبية مرموقة، فتيسّر له دخلٌ ماديّ كافٍ، مكّنه من الزواج من خطيبته الأديبة «زيلدا ساير» Zelda Sayre، إذ أن نشر الرواية كان يعني النجاح والمال والشُهرة، فعاشا حياة باذخة مُترَفة.
في عام 1922 نشر روايته الثانية «الجميلة والبغيض» The Beautiful and the Damned، والتي تتحدّث عن الزواج المليء بالمشاكل. وقد رسّخت هذه الرواية أدب «فيتزجيرالد» كأحد المؤرّخين والساخرين من ثقافة الثروة والمال.
تُصوّر الرواية مجتمع المقاهي في «نيويورك»، والنُخبة الأمريكية خلال عصر «الجاز» Jazz في العشرينيّات من القرن العشرين. وعصر «الجاز» مُصطَلحٌ شاع في حُقبة ما بعد الحرب العالمية الأولى، بعد ظهور موسيقى الجاز على يد مجموعة من الموسيقيّين السود، وما تبعها من ثقافة الثروة والبذخ وأسلوب الحياة الأرستقراطية.
وفي عام 1924 غادر «فيتزجيرالد» وزوجته ليحطّا الرحال على ضفاف «الريفيرا» الفرنسية، وأثناء إقامتهما هناك أصبحا يُمثّلان مع مجموعة من الأدباء المغتربين الأمريكيين «الجيل الضائع» The Lost Generation، وهو الجيل الذي ظهر في «باريس» ويُعبّر عن الضياع الذي أصاب جميع البلدان الأوروبية بعد الحرب. وكان كلّ من أراد الشُهرة في صالونات «أمريكا» الأدبية انضوى يبحث عنها تحت هذه المظلّة؛ التي راحت تتّسع حتى شملت مظاهر الحياة الشبابية برمّتها.
لقد التصق اسم «فيتزجيرالد» وأدبه بهذا الجيل الذي يسخر من المثاليّات الزائفة للحرب، ويُدير ظهره للقيَم والتقاليد المُتعارف عليها.
وفي «فرنسا»، كتب روايته الثالثة الشهيرة «جاتسبي العظيم» The Great Gatsby، وهي رواية أمريكية كلاسيكية جرى نشرها في عام 1925، تصف أحداثها بشكل مفصّل أسلوب حياة النخبة الثريّة في تلك الفترة.
إن هذه الرواية في النهاية تترك القاريء يتساءل عن قيمة الثروة والنجاح الذين يسعى إليهما الناس، وعن الأحلام التي تُراودهم، ومدى العمق الذي يمكن أن تصل إليه الأماني المستحيلة.
وبالرغم من أن رواية «جاتسبي العظيم» تُعتبر أروع ما خطّه يراع هذا الروائي، إلا أن جمهور القُرّاء لم يحتفِ بها عند صدورها، ولم تصل لمكانتها المتميّزة حتى الخمسينيّات والستينيّات من القرن الماضي، أي بعد وفاة الكاتب، حيث حقّقت الرواية رواجاً كبيراً، باعتبارها الصورة الأعمق، وإحدى أبرز الوثائق التي صوّرت عصر «الجاز»، وحياة النخبة الأرستقراطيّة الباذخة.
وبعد سنين من انقطاع الإلهام، أصدر «فيتزجيرالد» في عام 1934 روايته الرابعة «رقيق هو الليل» Tender is the Night، ولم تلقَ النجاح في ذلك الوقت، لكنها تُعدّ الآن من الروايات العظيمة.
وفي عام 1939 بدأ العمل على رواية أُخرى هي «حُبّ الزعيم الأخير» The Love of the Last Tycoon وكانت هي آخر رواياته وأكثرها نضوجاً، بيد أنه توفّي قبل أن يُتمّها.
وقال الروائي الياباني الشهير «هاروكي موراكامي» عن هذه الرواية: «أعتقد أنه لو تمّ الانتهاء من هذه الرواية، لكانت ستصبح واحدة من أعظم الروايات في تاريخ الأدب الأمريكي».
إن إبداع هذه الرواية حفّزت النقّاد على إعادة تقييم موهبة «فيتزجيرالد»، والاعتراف به كواحد من أكثر الكُتّاب الأمريكيين إبداعاً في القرن العشرين.
توفّي «سكوت فينزجيرالد» عام 1940 وعُمره 44 عاما، في «هوليود» بعد أن أُصيب بنوبة قلبية.. رحل بعد أن أفل نجمه وأُهملت ملَكاته الإبداعية وآثاره الأدبية الرائعة، حتى أنه لم يكن في المكتبات كتاب واحد من أعماله، مما يعني أنه لم تُعد طباعة أيّ منها قبل وفاته بزمن طويل.
لكن الاهتمام بأعمال «فيتزجيرالد» عاد من جديد بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، بالغاً ذروته في عقد الستينيات من القرن الماضي، حيث جرى الاعتراف به كواحد من أهمّ أُدباء القرن العشرين، وذلك لما تضمنّه إرثه الأدبي من محاولات سبر أعماق النفس البشرية، وتطرّقه لمفاهيم الطموح والعدل والمساواة، والتي بوّأته مكانة مرموقة في لائحة روائع الأدب الأمريكي.
لقد سبق أن عبّر «فيتزجيرالد» في إحدى اقتباساته عن حالة مشابهة لما أصابه من تجاهل طويل، ثم احتفاء العالم بنبوغه وعبقريّته، بقوله: «دعونا نتعلّم إظهار صداقتنا للشخص، عندما يكون على قيد الحياة، وليس بعد وفاته»!
لقد كتب «فيتزجيرالد» في روايته الشهيرة «جاتسبي العظيم»: «لكلّ لحظة في الحياة قيمتها الخاصة.. صحيح أنها عُرضة للشكوك على ضوء الأحداث اللّاحقة، لكن لحظة الجمال باقية».
هذه العبارة السابقة، كتبها الأديب، وهي تُعتبر تجسيداً لفلسفته، وفنّه، وحياته..!