د. شاهر النهاري
دعونا نتناول حالنا مع القراء الكرام، وكذلك مع القراء البخلاء ممن لم يعودوا يلتفتون لما نكتب، وشحا ينظرون لملخص مقالاتنا على شكل تغريدة، ربما يصفها البعض بالطويلة، وربما الغثيثة.
حكايتنا تشابه حكاية شاعر المجون أبو العتاهية والذي أصبح جادا «متحلطم» كثير النقد في آخر عمره، متمسكا بأشعار النصح وحكم الجدية، حتى عُد من كبار المتشائمين، ولم يعد الشباب والمراهقين يحبون أشعاره، بشعورهم أنه كان يعيش عصرا غير عصرهم، وتفاعلا مختلف عليهم، لا حيوية ولا تراقص بالكلمات والمعاني ولا مسايرة الجو، عكس شعراء كانوا أقل منه قيمة شعرية وفلسفية، ولكنهم تغلبوا عليه بالقرب مما يحدث بالشارع، وبقرع قلوب العاشقين، والغزل المغرق بالوصف، متأقلمين مع اللحظة والمكان، وما يطيب سماعه، ورؤيته.
نعم، غدت الفجوة كبيرة بيننا نحن كتاب الرأي وبين مدارك الجيل الحالي، ومن يقرؤون لنا هم بقايا أشخاص من أعمارنا، يفهمون رطننا، ويحيون قريبا من قلق أرواحنا، ومقدرين لمرحلة خرسنا الكتابي، ومعاناتنا من انكماش سقوف الحرية حولنا وفوقنا، وأن أي لفظ قد يفضي بكارثة كسر خطوط الحياة الحديثة، وهم بلا شك قريبون من اهتماماتنا ورؤيتنا للأنفس والمجتمعات والواقع الحاضر، والرؤية المستقبلية، والتي تبحث في لبها عن الصلاح والإصلاح وسراط الثقافة المستقيم الغني المجدي، كتجاوزين السفاسف، ومحترمين للكلمة، وبما لا يؤدي إلى مفهومات قد تضر مدارك الجيل القادم، وقد تبعدهم عن أصول المعرفة والبحث، والثقافة، وفنون التفكير والحوار، وعمق المعاني، وكيفية التمسك بالأصالة، أثناء المرور بوسط جنون شوارع التمدن، كثيرة الفلاشات والزوابع، والانهيارات، وانزلاق طبقات الأرض، وتنامي أعمال الحفر، يقصد بها إعلاء المباني البراقة، مهما جهل ساكنيها خواص تشغيل صنابيرها، وخيالية أسسها من متانتها، ومهما تشابهت الوجوه، وتأنقت الأجساد، ومهما كثر «المتميلحين» المتحدثين لفلاتر الشاشات، يهرجون، ويطرحون النظريات الورقية وبما يجبرهم بريق الظهور للخوض فيه، ببغاوات تقرأ برعم العنوان، وتعود لتنفشه مزهرية!
دورنا نحن كتاب الرأي خطير، وسلطة الصحافة ليست رفاهية، وعزلتنا لا تدل إلا على نوعية الثقافات السائدة في عصرنا، وتمكن عجزنا باستسلامنا للخرس، واضعين القدم المربوطة على ظهر جمل، والقدم الأخرى فوق ظهر حصان هائج، يتسابق مع الخوف والشتات، باختلاف المعطيات ووجهات النظر وعدم معرفة الاتجاهات ونقاط التوقف، والسرعة، وتجاوز الخطوط الملونة، والمركوبان لا ينويان على البقاء ملتصقان خشية داء الجرب!
ثقافات اليوم «الدليفري» اختلفت، ولم يعد الشباب يبحثون عن معلومة ثقيلة الهضم، ويبدعون في تجرع فشفاش الخشاش، ما يخلق الهشاشة ليس فقط في العظام، ولكن في أسس لمعة الأسنان، وتعرجات عظام الجمجمة، بفلاتر تكذب، مع تخيلهم الواهم بأنها لا تكذب.
المقال الذي يخرج منا بسهولة النفس، ليس كمشاعر جاثوم مقال لا يخرج إلا لو وضعنا في طريقه الملينات، ومهما حصرناه لأوقات طويلة، معتقدين أن الزمن سيمنحه شرف النشر والذيوع.
والظروف المحيطة لم تعد مثلما كانت، بعد أن أصبح كتاب الصحافة أكثر من الهم على القلب، وكل منهم يصدق أنه هو من يكتب الزبدة، رغم تشبثه بالترجمات والتعديل الإلكتروني، وبما يسببه من حرقة مرارة لموظف التصحيح اللغوي.
المسافات البينية تتقارب، والفروق يصعب اكتشافها، حتى بواسطة الذكاء الاصطناعي، حينما يتوغل التزوير، وخلط وتشويه مكونات العبارات، حتى لا يتم اكتشاف تكرارها، وفرزها بيضاء من بين سلال الغسيل الملون.
ولكن، الكاتب الواقعي الخبير المتطلع يستطيع تغيير ذاته ونتاجه، وبما يُحسن، ويقترب من أذواق الجيل الجديد، ودون أن يفقد خطوات الحمامة التي طالها نحس غراب البين، بحرص على أمانة ما يكتب، ودون تعالي، مسهلا على القارئ الجديد كيفية تجرع مرارة دواء المعلومة الأصيلة، ودون قلب المبادئ، ولا بناء ثقافات هشة، تهتز قواعدها وقممها بتحرك طبقات الأرض، وتحاول تخطى تسونامي النفاق وأعاصير الهياط ورياح السخف، مما لا يبني وطنا، ولا يشعل منارة، ولا يعلي سدودا لثقافة أصيلة، لها مع القادم أبراج من الأصالة وجسور من الرزانة، وجزر تتوسط شواطئ خضار العقول.
دعونا نعترف، فنحن جيل القهوة على المفرق، يقال عنا مخضرمين، ونقول عن أنفسنا شباب، وبما نظن ونسمع من مجاملات لأقراننا، وبما نواجهه أمامنا من نقص القيمة، والصعوبات القصوى بدخول التقنية والتواصل والذكاء اللا إنساني إلى حياتنا حتى فقدنا بريق حميمية أقلامنا.
كتاب يحترمون أنفسهم لا بد لهم من الحرص على استمرارية ري سواقي الثقافة الرزينة المتأصلة، ولا بد أن يزاولوا النقد البناء المفيد بذاتهم، وأن يمتلكوا الذكاء في حسن اختيار وتمرير مواضيعهم مهما احتوت من دسم، وصولا إلى رسم كاريكاتيرات المرئيات المستقبلية بحروف توضح الطرق أمام كتاب الجيل القادم، ليفرقوا بين الثقافة والسخافة، وبين الصنع من عدم، عكس حيل تدوير المعلومة المستهلكة، وبنظرة أمل تجعل شعوبنا سكان أقمار صناعية ينظرون من شاهق، ويعرفون فروق تواجدنا المثمر من عدمه، وتفهمنا للتقنيات الجديدة، وتقديرنا للمنطق والمعرفة، وتشرب العلوم والمعارف الأصيلة، وركوب مجالات الصناعة والذكاء، وفي نفس الوقت نظل متوازنين مع رزانة الماضي، وقيمة المبادئ والقيم، التي تشكلت عليها عظام ظهر وأضلاع وجمجمة مجتمعاتنا، فنكون بذلك قد جمعنا عين الجد، وقلب الأب وتحفيز الابن في بوتقة واحدة.
وتلك صعوبة مضنية حاول أبو العتاهية رسمها بشعره:
طولُ التعاشرِ بينَ الناسِ مملولُ
ما لابنِ آدمَ إن فتشْتَ معقولُ
للمَرْءِ ألْوَانُ دُنْيَا: رَغْبَة ً وَهوًى
وعقلهُ أبداً ما عاشَ مدخُولُ
يا راعيَ النّفسِ لا تُغْفِلْ رِعايَتَها،
فأنتَ عن كلّ ما استرْعَيتَ مَسؤولُ
خُذْ ما عرفتَ ودعْ ما أنتَ جاهلُهُ
للأمْرِ وَجهانِ: مَعرُوفٌ، وَمَجهولُ
وَاحذَرْ، فلَستَ من الأيّامِ مُنفَلِتاً،
حتى يغُولَكَ من أيامِكَ الغُولُ.
والغول بمفهوم عصرنا الحالي المكهرب، هو الذكاء الاصطناعي!