محمد الراشدي
معين السيرة الذاتية نهر الحياة، وآنيتها اللغة، وتتقاطع مع بقية أنماط الكتابة في كثير من خصائصها، وعلى الرغم من ذلك، وعلى الرغم أيضاً من أن مستوى التخييل في السيرة الذاتية لا يبلغ نظيره في بقية حقول الكتابة؛ إلا أن السيرة الذاتية تبقى أعقد فنون الكتابة، وأكثرها حساسية، ولصاحبها نصيبه الوافر من قلق الكاتب وتردده الذي يحمله في كثير من الأحيان على تلافي التجربة كلها، أو العدول عنها إلى مقاربات كتابية مواربة تتنكر فيها السيرة على هيئة قوالب من السرد أو أشكال البوح التي لا تبوح، وآليات القول التي لا تقول شيئًا!
وإشكالية السيرة الذاتية على هذا النحو ليست فنية بقدر ماهي ضرب من ضروب الرهاب المتعلق بالإفصاح والبوح، يتفاقم أكثر كلما تفاقمت مساحات الخصوصية، واتسعت رقعة المسكوت عنه، كما هو الحال في المجتمعات العربية عامة، ومجتمعنا المحلي على نحو خاص.
والمسكوت عنه في هذه المجتمعات لا يتاخم بالضرورة أية محاذير من أي نوع، لكنه يندرج ضمن الإعلاء من قيم الصمت والكتمان التي تجسد فضائل تتضافر قيم الثقافة العربية على الإعلاء من شأنها، وتنظر بكثير من التوجس إلى ما يخالفها ولو لم يكن غير سيرة ذاتية أوغل فيها التنقيح، وذهب المحو بأكثر مادتها ومضامينها.
كل ذلك والحديث لا يبرح السيرة في مستواها العادي المتخفف من أية محترزات أو محاذير، حتى إذا انتقلنا إلى تلك السير التي تقارب حيوات أو تفاصيل تصالحت أعراف المجتمع على تصنيفها ذات طابع خاص، ذي حساسية عالية؛ حينها تكون الكتابة السيرية أقرب إلى مجازفة اقتحام حقول الألغام والسير بين احتمالات الهلاك والنجاة في كل خطوة.
وإذا كانت محاذير الكتابة السيرية لدى الكاتب العربي كثيرة، فإنها على كثرتها يمكن أن توضع كلها في كفة مقابلة وموازية لمحاذير السير ذات المرجعية العسكرية التي يتصدى لكتابتها بعض المنتمين إلى السلك العسكري؛ إذ تنهض المحترزات كلها ومعها مثلها من محترزات العسكريين الذين يتدربون عقودًا على الكتمان، قبل أن يحاول أحدهم مغادرة خندق الكتمان إلى فضاءات البوح ولو قليلًا، وهو يخط تفاصيل عمره وسيرته.
وسيرة العسكري ليست بالضرورة إفشاءً لماضيه، أو إفصاحًا عن أسرار عن مهنته، لكننا نعرف جميعًا حجم الإغراء الذي تحققه سيرة يتصدرها عنوان رئيس أو فرعي من نحو: «مذكرات ضابط سعودي»، ولو لم يتجاوز مضمونها المألوف من مضامين السيرة.
ومثلما أن انتخاب مضامين السيرة مهارة لا ينبغي أن تعوز كاتبها، فإن أهميتها تتعزز في مثل هذه السير ذات الطابع المختلف. ومن هنا أستطيع أن أقول جازمًا إن هذه المهارة، إلى جانب بقية متطلبات الكتابة السيرذاتية في جانبها الفني تضافرت وعلى نحو لافت في سيرة العميد ركن شيبان الراشدي، التي جسدت فصولها المتلاحقة ارتحالًا ماتعًا بين حقب زمنية مختلفة، وأحداث ذات طابع لاهث لا يستكين، وصراع لا يركن إلى هدنة أبدًا، أثمر في نهاية الأمر عمرًا توزعه اليتم، والنضال، والإصرار، ومرت به فصول من الحب والحرب والألم؛ أسفرت عن ربيع من التجارب، وحقول من سنابل الحكمة التي أنضجتها السنين، وعادت زاخرة في «بستان العميد».
وعليه فإن ما يمنح هذه السيرة فرادتها واختلافها ليس مجرد إحالتها على حياة حافلة لعسكري سابق بلغ أرقى الرتب فحسب؛ لكن الاختلاف الحقيقي في كونها وثيقة نابضة بالصدق حول مرحلة تاريخية بُعد بها الزمن، وجاءت من بعدها تحولات هائلة أوشكت أن تحيلها إلى النسيان، وبات لزامًا على شهود المرحلة توثيق خزائن الذاكرة، ومجابهة النسيان بمثل هذا السرد الفاخر الأنيق الذي يسد فراغًا كبيرًا في ذاكرة أجيال ولدت في أزمنة تالية، واحتدمت في وعيها أسئلة شتى حول أمس البلاد والعباد، واقتضى واجب التاريخ أن يتصدى أهل الوعي والخبرة من شهود المرحلة لمقاربة تلك الأسئلة بإجابات تلتحم من خلالها مراحل التاريخ وتحولاته، في سياق بغير فجوات تربك سيرورة المراحل، وتحبط الذاكرة.
وإذا كان من معايير الاختلاف في السيرة الذاتية أن يعثر القارئ في ظلال أحداثها على ما يتوخاه من إحالات على واقع التاريخ والثقافة والمجتمع في مراحل بعينها من عمر المجتمع؛ فإن سيرة العميد هذه تحقق هذا المعيار على نحو يغري شغف القارئ بإطلالات فريدة على مشاهد الحياة خلال الثمانينيات والتسعينيات الهجرية وما بعدها، تتدفق فيها صور حياة تتخلق بين أكواخ القش ورغاء الدواب ودلاء الماء الظامئة وطمأنينة القرى الوادعة والكفوف التي يتبارى على أناملها الصخر والجمر في مشاوير الشظف اليومي المؤلم، والمدارس القليلة والبعيدة التي شهدت بواكير الحروف وفواتح الأحلام المتوجسة الشحيحة.
ولا يدع الكاتب قارئه في ذلك الأفق القروي المغلق دون أن يرصد له ذلك البزوغ المتدرج للتغيير الوئيد في واقع الحياة، وكذلك التفاوت الكبير بين إيقاع الحياة في القرى وصخب المدن النائية، وهو التفاوت الذي أنتج الهجرات الكبيرة في التسعينيات الهجرية وما بعدها.
وليست ظلال القرى وحدها التي يتفيأ القارئ وارفها في هذه السيرة؛ فثمة صور ثرية عن مشاهد الحياة في المدن التي اقتضت مسيرة الحياة الانتقال إليها، والتقلب في أبواب العيش بها، ومن تلك المشاهد ما من شأنه أن يخلق مفارقات مدهشة حين المقارنة بين أمس تلك المدن وحاضرها.
ولم يمنع التحفظ كاتب السيرة العميد أن يعرض للمرحلة العسكرية من حياته، ويوثق تفاصيلها وتجاربها وانتقالاتها وحروبها، بذات اللغة الرشيقة وثراء المضمون الذي سرد به أخبار طفولته ونضالاتها وأيامها، والفصل الشائق عن حرب الخليج الثانية كان شهادة ميدانية تضع قارئها في قلب حدث قديم قليلة هي الشهادات التي كتبت عنه، خاصة ممن يستعيد ذكريات تنقلت خطاها بين حقول كمائن الحرب وألغامها، واحتدم في سمعها قصف مدافعها وراجماتها، وأبصرت بأحداق اللهفة نصرها المنتظر.
لقد تذكرت وأنا أقرأ هذه السيرة، سيرة الراحل عزيز ضياء «حياتي مع الجوع والحب والحرب»، وفي هذه السيرة أيضا جوع وحب وحرب، وفيها مع ذلك انتصارات فاتنة؛ أهمها وأجملها انتصار الإنسان لأحلامه وتطلعاته، وإصراره، ورهانه على الغد، ذلك الرهان الذي لم يركن إلى الأحلام وحدها، ولم يُسلم لليتم والفقد ومخاتلات الحياة التي ظلت تترصد الرحلة في كل مراحلها، واحتفظ بصموده ذلك اليتيم الذي كان ركنًا في بيته تأوي إليه شقيقاته، ثم ركنًا في دراسته يحرز المراكز الأولى بتفوق واقتدار، وركنًا في دكان خاله يفوضه في أمر تجارته رغم حداثة عمره، ثم ركنًا في مسيرة كدح طويل بين التحصيل العلمي، والعمل العسكري؛ أثمرت في نهاية الأمر حكاية شائقة، بطلها ذلك اليتيم الركن، أو العميد الركن شيبان الراشدي.