سليم السوطاني
في أحد صباحات الثلاثاء، التي ينطلق فيها الأهالي، قاصدين سوق المخواة، من القرى والمحافظات المجاورة لهذه السوق، آتينَ من كل حدب وصوب، وألسنتهم تلهج بالدعوات: «يا فتاح يا رزاق يا كريم، توكلنا على الحي القيوم الذي لا ينام»، وكعادة المغزول سعيد؛ يتعرض للسيارات الذاهبة إلى السوق، بثياب متسخة، وهيئة مترهلة، ولسان ألثغ، تخرج الكلمات من بين شفتيه غير واضحة الملامح... يقصد السوق، لا لكي يبتاع شيئًا، وإنما روحه تحمله إلى فضاءات السوق، ويحب دائمًا أن يبقى حاضرًا في الأماكن التي تكثر فيها الجلبة، ولا يغيب عن سوق الثلاثاء إلا إذا كان حظه تعيسًا ولم تتوقف سيارةٌ لإشارات يده.
وصل إلى السوق مبكرًا، اندمج مع صوت الباعة: «قرّب... الطيب عندنا» ... بادلهم تحيته، ثم عرج على المكان المخصص لبيع الطيور، ومرَّ بالمجلبة (المكان المخصص لبيع الحلال).
قلّد ثغاء الماعز بخفة دمه المعهودة، والناس تبادله الضحكات، ويطلبون منه المساعدة أحيانًا، في مقابل ريالات معدودات...
بعد أن أخذ جولته الكاملة ذهب - كعادته - إلى فوّال خلوفة... دلف إلى المطعم المكتظ، الجميع يتحاشى أن يقاسمه طاولته، فانتظر حتى وجد مكانًا شاغرًا، فقفز إليه بخفة...
طلب طلبه... والتهمه بسرعة، كأن هناك من يطارده...
هناك في ركن المطعم، عند بوابة الخروج، حدث شجارٌ بين المحاسب وأحد الزبائن، برفقة طفليه، على خمسة ريالات متبقية من الحساب... ترجاه الزبون: «دخيلك، والله ما عاد معي غير الفلوس التي أعطيتك» ... تجمع العمال حوله، بعد أن استعان بهم المحاسب، وأخذوه يهددونه بدفع المبلغ كاملًا، وإلا فسيضطرون إلى مناداة الشرطة. جميع مرتادي المطعم يشاهدون ما يحدث أمامهم دون حراك، كأنه مشهد تمثيلي للتسلية... تنحنح سعيد المغزول إذعانًا بالشبع... نهض وغسل يديه، واتجه إلى المحاسب، والحدث مازال جاريًا، والأصوات تتعالى من العمال، والزبون يشعر بالإحراج، والجميع رقابهم تتجه لمعرفة نهاية الحدث... قدم المغزول، ورفع ثوبه ليخرج الكمر الملفوف على خاصرته، أخرج منه خمسين ريالًا، ورفع صوته على المحاسب قائلًا، بلثغته: «حُدّ حدّي وحدَّه» ... بمعنى: «اقتطع حسابي (حقك مني) وحسابه (حقك منه) من هذه الخمسين». لم يفهم المحاسب مقصده، حتى أعاد الجملة مرة أخرى، مع الإشارة إلى الزبون، ففهم مقصده... ثم مضى تاركًا خلفه وجوهًا قبيحة، شعر بعضها بالخجل، حتى وقف أحدهم تاركًا تكملة إفطاره، وقال لمن حوله: «والله نحن المجانين، وسعيد المغزول هو الصاحي فينا، خمسة ريالات ما كان أحدنا يقدر أن يفك زحمة الرجل ويفك المشكلة القائمة»!
مضى سعيد، وأحدث خلفه حراكًا وهزة إدراك عميقة!
تمَّت..