ناهد الأغا
حملوه حباً وعشقاً حتى الموت كالطير في قلوبهم؛ وليس ثقلاً وهماً كالسلحفاة على ظهورهم.
فمن طين الغربة؛ دعائم الوجع؛ وسعير المسافات شيدوا قوافيهم خيمة لجوء حيث أودعوها الشوق والتاريخ؛ الوطن والهوية.
فكان نتاجهم شعراً ونثراً يقطر من بين ثناياه وجداً صادقاً عميقاً ساهم في إثراء الأدب العربي والعالمي.
وإنه ومن الأهمية بمكان تسليط الضوء عليه لما يحمل من إبداع وتميز.
أولئك الثلة من الشعراء والأدباء الذين هاجر أغلبهم إلى أمريكا لعدة ظروف تأتي في مقدمتها الاقتصادية والتي عانت منها بلدانهم وقتذاك هم أدباء المهجر الذين عملوا على تأسيس رابطتين أدبيتين:
الأولى الرابطة القلمية في المهجر الشمالي.
والثانية العصبة الأندلسية في المهجر الجنوبي.
فأما الرابطة القلمية فقد أسسها الكاتب والشاعر اللبناني جبران خليل جبران بمعية مجموعة من أصدقاء الغربة نذكر أبرزهم:
ميخائيل نعيمة..
إيليا أبو ماضي..
ونسيب عريضة.
وأما العصبة الأندلسية فهم الأدباء والشعراء الذين هاجروا إلى البرازيل والأرجنتين وفنزويلا والمكسيك أي أمريكا الجنوبية.
ومن أبرز أعضاء العصبة الأندلسية في المهجر الجنوبي:
شفيق المعلوف..
رشيد سليم الخوري..
والياس فرحات.
وإن وقفنا على ما تميز به أدب المهجر من خصائص فكانت أكثرها أهمية وأبرزها:
* الحزن الذي نلمسه بوضوح جلي يتشرب من بين الكلمات وتفوح به الحروف مهما يحاول الكاتب أو الشاعر أن يواريه من خلف أستار المعاني في القصيدة أو القطعة النثرية.
* الحنين الذي تنطق به حروف القصيدة يبرز مشرئباً من بين ثناياها يقف بكل وضوح عارياً كالحقيقة وبدون أية أقنعة، ويعزى تميز هذين العنصرين إلى صقيع الغربة الذي يسكن الشاعر والأديب وإحساسه المرهف بثقل وجعها والمسافات البعيدة التي تفصله عن الوطن والأهل والتي تزيد طين الغربة سيولاً من القهر الذي ينخر في وجدان المهاجر.
* الطابع القصصي الذي تميز به بعض الأدباء حيث ألقى بظلاله على أركان القصيدة ومنحهاً شكلاً عضوياً مترابطاً ومنسجماً انسجاماً تاماً من حيث الصورة والفكرة في قالب ساحر، وهذا النوع من شكل القصيدة اتبع أسلوبه إيليا أبو ماضي.
* لطالما عنون الشاعر المهجري قصيدته بتجربة ذاتية مر بها في غربته، وهنا يظهر مدى صدق المشاعر الوجدانية لأنه عاشها وعايشها بكل تفاصيلها.
* ولعل النزعة الإنسانية ظهرت واضحة جلية بأدبهم الذي يرمي إلى كل ما هو سام كالحب والأخلاق الرفيعة.
* كما وأكد أكثرهم في قصائده على مبدأ التأمل والنزعة التأملية إبرازاً لمكنونات النفس، وما يعتريها من إحساس مرهف يدل بعمقه إلى الصفاء الروحي الذي يسمو على كل فضيلة.
* أما من حيث القافية والوزن فكان التجديد هدفهم وله الأولوية حيث سكبوا القصيدة بقالب استثنائي يتحرر من كل ما يقيدها وزناً وقافية؛ فقدموا مقطوعات سجلها بقوة سفرهم الخالد في الأدب متبعين على الأغلب شعر التفعيلة الذي تميزت به الكثير من القصائد.
* كما أكدوا على سهولة المعاني ووضوحها تجنباً للتعقيد والحرص على الابتعاد عنه.
وكل ما سبق ذكره من خصائص تجتمع عليها قصائدهم وتكون نقاط تقاطع فيما بينها. وهاهو ذا الشاعر إيليا أبو ماضي يبث لوعة الغربة في قصيدة «أمنية المهاجر» فيقول في بعض أبياتها:
ليس بي داء ولكني امرؤ..
لست في أرضي ولا بين صحابي.
مرت الأعوام تتلو بعضها..
للورى ضحكي ولي وحدي اكتئابي.
كلما استولدت نفسي أملاً..
مدت الدنيا له كف اغتصاب.
أفلتت مني حلاوات الرؤى..
عندما أفلت من كفي شبابي..
أيها السائل عني من أنا..
أنا كالشمس إلى الشرق انتسابي.
وعن ديار الغربة تفيض قريحة جبران خليل جبران في قصيدة «البلاد المحجوبة» فيقول:
هو ذا الفجر فقومي ننصرف..
عن ديار ما لنا فيها صديق.
ما عسى يرجو نبات يختلف..
زهره عن كل ورد وشقيق.
ولكونه، أي جبران خليل جبران فيلسوفاً؛ عالم روحانيات؛ رساماُ؛ وفناناً تشكيلياً إلى جانب كونه أديباً وشاعراً فلا بد أن نقطف في هذا المقام بعضاً من دوالي فكره التي يظهر فيها الطابع الفلسفي:
«مع أن أمواج الألفاظ تغمرنا أبداً؛ فإن عمقناً صامت أبداً».
ويالجمال ذاك القول المؤثر لجبران حيث يقول:
«جميل أن تعطي من يسألك ما هو في حاجة إليه؛ ولكن أجمل من ذلك أن تعطي من لا يسألك وأنت تعرف حاجته».
وكم عميق صدقه في قوله عن المحبة في «الأجنحة المتكسرة»:
«ما أجهل الناس الذين يتوهمون أن المحبة تتولد بالمعاشرة الطويلة والمرافقة المستمرة؛ إن المحبة الحقيقية هي ابنة التفاهم الروحي وإن لم يتم هذا التفاهم الروحي بلحظة واحدة لا يتم بعام ولا بجيل كامل».
وهذاا الشاعر نسيب عريضة يصف بقوافيه المستعرة شوقاً بلده حمص في قصيدته «الحجار السود»:
حمص العدية كلنا يهواك..
يا كعبة الأبطال إن ثراك..
غمد لسيف الله في مثواك.
ثم يسترسل بحنينه :
يا دهر قد طال البعاد عن الوطن..
هل عودة ترجى وقد فات الظعن..
عد بي إلى حمص ولو حشو الكفن..
واهتف أتيت بعاثر مردود..
واجعل ضريحي من حجار سود.
أما ميخائيل نعيمة الذي يترنم في قصائده طابع الرومانسية فيعزف من بين ثناياها لحناً سخياً يخفت حيناً ويعلو بتكرار للمعاني في أحايين كثيرة كما يقول في قصيدة «جبل التمني» :
نتمنى وفي التمني شقاء..
وننادي يا ليت كانوا وكنا.
ونصلي في سرنا للأماني..
والأماني في الجهر يضحكن منا.
وعندما نيمم شطر الرابطة الأندلسية نقف على أعتاب عبقري فذ وواحد من أهم مؤسسيها ألا وهو الشاعر والأديب شفيق المعلوف الذي حاك قصائده بحرير قريحته المستفيضة إحساساً وإبداعاً قل نظيره، ويظهر ذاك الشعور بكل وضوح وتجلٍّ في قصيدة «عودة الشراع» حيث يقول فيهاً :
هاك ملهى الصبا؛ فيا قلب لملم..
ذكرياتي على ضفاف الوادي.
موطني؛ ما رشفت وردك إلا..
عاد عنه فمي بحرقة صادي.
في قلوب المغربين جراح..
حملوها على الجباه الجعاد.
يوم دقوا سواحل الشرق بالغر..
ب ولم يهدهم سوى العزم هاد.
وزعتهم كف الرياح فهلا..
جمعتهم يد النسيم الهادي.
حان أن يخنقوا الشراع ويطووا ..
علم الفتح بعد طول الجهاد.
وفي ختام الحديث لابد من الإشادة بفضل أولئك المبدعين من شعراء المهجر والذين عايشوا مخاضاً من الغربة تمخض عن ولادة فصل من الأدب العربي والعالمي أقل ما يقال عنه أنه متميز ورائد التجديد في الموضوع والشكل؛ في القافية والوزن؛ وفي جوهر العمل الأدبي شعراً ونثراً والذي تفرد بالتحرر التام من أي قيود تغل أركان القصيدة وتحشرها في زاوية الرتابة.