د.عبدالله بن موسى الطاير
بدأ المشهد الجيوسياسي معقداً ومتقلباً فيما قبل الحرب العالمية الثانية، واتسم بتوترات متصاعدة الحدة، وأيديولوجيات متنافرة ومتنافسة، مدفوعة برواسب الحرب العالمية الأولى. ظروف كثيرة هيأت ساحة القتال لحرب كونية قضت على عشرات الملايين من البشر، وأهلكت الحرث والنسل، وأعادت توزيع خرائط القوة، وأرست نظاما عالميا نشهد اليوم بوادر أفوله.
من وجهة نظر المنتصرين، فإن فترة ما بين الحربين العالميتين شهدت صعود أنظمة شمولية في ألمانيا وإيطاليا واليابان، تبنت بقيادة أدولف هتلر، وبينيتو موسوليني، والإمبراطور هيروهيتو سياسات توسعية عدوانية، ورغبت في تحدي النظام العالمي القائم حينئذ. بينما يعتقد المعسكر الآخر أن ضعف عصبة الأمم المتحدة التي تشكلت بعد الحرب العالمية الأولى لتعزيز التعاون الدولي ومنع الصراعات المستقبلية، وعدم فعاليتها في ممارسة دورها هو الذي أفضى إلى تكتلات وتحالفات بديلة انتظمت فيها دول ذات فكر متشابه.
لقد كان عجز عصبة الأمم عن فرض قراراتها، واعتمادها على حسن نية الدول الأعضاء، سبباً في تقويض سلطتها، وأظن أن المنظومة الأممية التي تشكلت في الأمم المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية تنزلق إلى المنحدر نفسه.
يضاف إلى ضعف الترتيبات الأممية في حفظ الأمن والسلم عدم الاستقرار الاقتصادي، إذ كان للكساد الكبير في الثلاثينيات تأثير عميق على الاقتصاد العالمي، مما فاقم التوترات القائمة على الاستحواذ، وأسهم في ظهور الأيديولوجيات المتطرفة، كما دفعت الصعوبات الاقتصادية التي واجهتها العديد من البلدان إلى خلق مناخات خصبة للوعود بحلول جذرية للفشل الاقتصادي خطبت بها إيطاليا، واليابان وألمانيا ود الدول المتذمرة. وبإسقاط تلك المعطيات الاقتصادية على واقعنا اليوم؛ فإن العديد من الدول والاقتصادات لم تتعاف حتى الآن من آثار كوفيد-19 على الاقتصاد العالمي، كما أن التغير المناخي قد أزّم الأوضاع الاقتصادية في العديد من دول العالم التي تندب حظها الاقتصادي وتتعلق بقشة الوعود من المعسكرات الساعية لتحدي الهيمنة الغربية من أجل خلق توازن في القوى يطمح للانعتاق من قبضة القطب الواحد.
لم تكن القوتان الراسختان في ذلك الوقت وأعني فرنسا وبريطانيا قادرتين على الحسم، فقد تراجع نفوذهما إلى حد كبير، ولذلك فبدلا من فرض إرادتهما عمدتا إلى سياسة الاسترضاء تجاه ألمانيا في محاولة لتجنب الحرب، وعلى أمل ثنيها بتلبية مطالبها، والحد من طموحاتها التوسعية، ومع ذلك، فإن تلك المهادنة السياسية شجعت هتلر في نهاية المطاف، ومهدت الطريق لمزيد من قضم الأراضي الأوروبية. ولا يختلف الأمر كثيرا في عالم اليوم، فأمريكا المتفردة بالقرار تبدو غير قادرة على الحسم، وهي بالتأكيد قوة مع وقف التنفيذ حتى العشرين من يناير 2025م، مما يعني تفاقم المشكلات التي كان يمكن أن توضع لها حلول جذرية فيما لو مارست الولايات المتحدة الأمريكية دورها ومسؤولياتها ووظفت قوتها لتحقيق العدالة في النظام العالمي الذي تقوده.
تصاعد التوترات بين الحربين العالميتين، وبروز الأنظمة الشوفينية، وارتفاع صوت الخطاب اليميني المتطرف، وضعف عصبة الأمم المتحدة، وعدم قدرة القوى التقليدية إذ ذاك على الحسم، دفع بالدول إلى تشكيل تحالفات للحماية المتبادلة ولمواجهة التهديد المتزايد للمحور المكون من ألمانيا وإيطاليا واليابان. على الجانب المقابل، شكلت القوى المتحالفة بقيادة بريطانيا وفرنسا، وفيما بعد الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، تحالفًا مضادا لدول المحور. كان لابد مع تزايد حدة الاستقطاب من بروز عدوين هما المحور والحلف اصطدما لاحقا في حرب عالمية مدمرة.
تلك العوامل، جنبًا إلى جنب مع شبكة معقدة من المظالم التاريخية، والنزاعات الإقليمية، تشبه إلى حد ما الوضع الروسي الأوكراني، وفلسطين، وجامو وكشمير، والتبت، والاشتباكات الإيديولوجية المتمثلة اليوم في صعود الأحزاب اليمينية، شكلت مشهدًا جيوسياسيًا خطيرًا، وغير مستقر للغاية في السنوات التي سبقت الحرب العالمية الثانية. لقد أدى فشل الدبلوماسية وعجز المجتمع الدولي عن التصدي بفعالية للتهديدات المتزايدة في نهاية المطاف إلى اندلاع صراع عالمي آخر، فهل يكرر التاريخ نفسه؟