أحمد المغلوث
كانت أياماً لا تُنسى تلك الأيام التي كنت خلالها طالباً منتسباً في جامعة الملك عبد العزيز بجدة، وكان من أجمل اللحظات آنذاك تعرّفي على عدد كبير من أبناء الوطن الذين قدموا لجدة من مختلف مناطق المملكة من أجل تقديم امتحاناتهم وكانت ساحة ملعب الجامعة الواسع يكاد يقص بأعداد الطلاب الذين تتفاوت أعمارهم ولكنهم جميعاً كانوا يسعون للحصول على الشهادة الجامعية، فأنت تجد من بينهم الموظف الشاب، والموظف الذي تجاوز منتصف العمر، والمتقاعد الذي يحلم بالحصول على شهادة جامعية لا لشيء إلا لهدف واحد أن يكون مثل أولاده الذين حصلوا عليها. التقيت به في مطار الملك عبد العزيز وكلانا في طريقه إلى جدة البلد. داخل سيارة التاكسي التي كان صاحبها شاباً لطيفاً استطاع أن يخطفنا بسيارته الصغيرة من خلال ابتسامته الوضيئة والتي امتزجت مع يديه حاملة حقيبتينا الصغيرتين وبعد تبادل السلام والتحايا وتعارفنا فقال أبو «ضاوي» الله يذكره بالخير فندق الحرمين وسط البلد والتفت نحوي قائلاً: الفندق أسعاره معقولة وعلى بعد خطوات توجد بالقرب منه مطاعم سمك وفول تجذبك رائحتها قبل أن تتناول ما تشتمل عليه من أطباق شهية، وحال خروجنا من بوابة المطار إذا بالسائق الشاب يضع شريط تسجيل وأغنية «الأحسائي» في شارع عبد ربه قابلوني» تصدح دافعة رأس السائق إلى أن يتمايل ويكاد جسده يهتز ولولا الحياء لأوقف سيارته الصغيرة جانباً وبدأ في وصلة رقصة شعبية أين منها رقصات البنات في الأعراس، ولم يقف السائق عند حد الثناء على كلمات الأغنية الشعبية فراح يقول تصدقون يا جماعة الخير أني دفعت لهذا الشريط 50 ريالاً وراح يضيف باعتزاز واحد راكب من الكويت قبل شهر طلب يشتريه بعشرة دينارات ثم أضاف معقولة أفرط فيه. فرد أبو ضاوي معقباً: لا تلام فبعض الأغاني تشبه العشق فيها شيء من السحر الذي يجعلك تدمن عليه حتى ولو كان من تعشقه مثل أغاني هذا المطرب الشعبي، وكدت أقول: إن اشترطت هذا المطرب البسيط والذي كان يحي الجلسات الطربية في بساتين الأحساء وحتى جلسات أحبته في طرق الحواري توجد في مكتبة «الكونقرس الأمريكي» بل هناك من يستدعيه لإحياء حفلاتهم الخاصة لا من منطقته وإنما كان يستدعى للسفر إلى بعض دول الخليج وغير الخليج ليحيي جلساتهم وسهراتهم الخاصة خلال إجازاتهم الصيفية - وحسب ما شاهدته. وسمعت عنه. كان متواضعاً وعرف باسم «فتى الشرقية» وأغانيه كانت ومازالت
منتشرة حتى اليوم في دول الخليج والعراق رحمه الله.. هذا وبصورة عامة فالأغاني الشعبية وفي كل مكان في العالم لها تأثيرها القوي بل يعتبرها البعض من كتاب تاريخ «الأغاني الشعبية» ستبقى في مختلف المجتمعات في العالم وكل حسب ثقافته ولغته ونوعية إيقاعات أغانيه الفلكلورية تاريخ يذكر على مدى الحياة بل إن الفنون في دول العالم وثقت تاريخ فنونها بالكلمة والرسوم والمنحوتات البسيطة التي تجد بعضاً منها في المتاحف العالمية بل إن الحضارات القديمة وثقت ذلك بصورة جلية، ولو تجولنا في هذه المتاحف لوجدنا العشرات من الكتب والدراسات واللوحات والمنحوتات التي صورت مبدعيهم عبر الرسوم واللوحات بل وحتى المجسمات، وماذا بعد أصبح الإعجاب والتصفيق والتصفير لبعض المطربين دلالة عالمية على الاستحسان وفي شتى الحفلات وفي مختلف المناسبات فجأة قطع تفكيري أو خواطري توقف الشريط ليستبدله السائق الشاب بشريط آخر لأغنية أخرى «يازين وخر شيلتك» عندها توقفت السيارة على بعد خطوات من الفندق..
وخلال قيام السائق بإنزال حقيبتينا من صندوق سيارته وإذا «أبوضاوي» يطلب منه أن يبيعه شريطاً في شارع عبد ربه قابلوني! وعرض عليه مائة ريال. فرفض بحدة. وكدت أقول لهما لقد رسمت أكثر من لوحة وكاريكاتير خلال العقود الماضية من وحي هذه الأغنية.. ولن أزيد.!؟