ليلى أمين السيف
لما كنا صغارًا، كان كل شيء في حياتنا ممنوعاً..
ممنوع ترفعي عيونك في وجه أبوك وأمك..
ممنوع ترفضي تأكلي عندما تتجمع العائلة وقت الوجبات الرئيسية والتي كانت تجمع العائلة على سفرة الطعام وقت الوجبات يعتبر من أقدس المقدسات. وإذا ما عجبك الأكل.. خلاص ما فيش أكل غيره..
نامي دون عشاء وإلا روحي لمدرستك من دون فطور.. نأكل من الموجود على السفرة.
كنت ما أحب الأكل الحار وإن كان هو الموجود على السفرة يعني أعمل نفسي آكل معهم.. ممكن أكل الأرز دون الإدام. أو الأرز مع السلطة لكن ممنوع أنتقد الأكل.. وعندما أبديت عدم رغبتي بطعام ما ذكرني أبي بقول الرسول صلى الله عليه وسلم : "ألا تسمعون ألا تسمعون إن البذاذة من الإيمان، إن البذاذة من الإيمان يعني التقحل".
وأتذكر زوجي ذات مرة حيث أمر ابني بأكل الفول عندما كان صغيرًا، فقال له الفيصل ابني إنه لا يحب الفول.. فقال له زوجي اليوم في فول بكرة يمكن ما تلاقي حتى هذا الفول. اتعود أنك تحب الموجود ولا تبحث عن المفقود. يمكن أنا ما أقدر أوفر لكم كل ما تشتهون.. وصرخ عليه صوت يمكن بعده تبول ابني على نفسه من الخوف.. أن تناقش والديك أو ترد عليهم كان إثماً عظيماً وقتها..
رأت أمي بناتي وهن يحاولن إقناعي بموضوع ما وأنا أرفض فصرخت عليهن وقالت "ربيت تسعة محد فيهم رفع صوته عليَّ" وبكل بساطه تقول لها ابنتي الكبرى": معليش يا ماما فرودة إحنا ربينا أمي على طريقتنا فرجاء ما تغيريها علينا". مصمصت أمي شفتيها حسرة وقلّبت عيناها امتعاضاً..
كان وقتها ممنوع على البنات الخروج وزيارة صديقاتهن ولم تسمح لنا أمي بالخروج إلا بعد الذهاب إلى منزل صديقاتي والتعرف على أمهاتهن وفوق هذا لا نذهب إلا بصحبة جيش من الإخوة أو الأخوات..
تلفون البيت كان ممنوعًا أن ترد عليه البنات وإن لم يتواجد رجل في البيت نرد بصمت نرفع السماعة وننتظر من المتصل أن يتكلم وإن لم يتحدث أحدهم كنا نغلق السماعة بهدؤ.. هرول أبي من عمله عندما وجد خط البيت مشغولاً أكثر من نصف ساعة وأمي ليست في المنزل..
أتذكر ابنتي أمل عندما منعتها من الخروج ذات مرة فاستعانت بوالدها عليَّ وتقول إنني المحرضة له وأنه كان موافقًا لولا تحريضي له خفيه.. لأنه كان ضعيفًا أمامها.. فأقول له بهدؤ لماذا ترمي الكرة في ملعبي. إذًا سأسمح لها بالخروج وأنت تتحمل المسؤولية.. فيما بعد تقول لي ابنتي الصغرى بكل بجاحة "أنا إذا كبرت سأفعل مثلك ولن أسمح لبناتي بالخروج فأنا مقتنعة بكلامك ولكنني أريد أن أخرج وأرجوك وافقيني واذهبي لغرفتك والبسي فستانك الأحمر واقنعي زوجك أنه يوافق..".
لا أعتقد أنه يوجد أحد من جيلي لم يذق حتى ولو ضربة واحدة من عصا أب أو أم أو معلم..
الإخوة والأعمام والأخوال كانوا أيضًا يربون ويهتمون وكانوا يقومون مقام الوالدين في حال الغياب أو الفقد..
حتى الجار كان له مقام وسطوة واحترام لدى صغار الجيران..
كنت أعتقد أن ذلك قسوة وبالتأكيد كثير منا تألم أو كره موقفًا من والديه أو التزمت والتشدد والقسوة الذي اتسمت به تربيتنا..
قسوة والدينا وقتها كانت حباً.. حرمانهم لنا من متع وقتية كانت الحصون المنيعة والوسائل الدفاعية لحمايتنا من أخطاء فوق مستوى فهمنا.. كبرت الآن وفهمت كما قالت لي أمي لن تفهمي إلا إذا أنجبتِ..
إنني لا أنادي بالعودة إلى تلك التربية الصارمة فقد نفعت في ذلك الزمن المنغلق.لكننا نحتاج لتلك الهيبة نحتاج إلى أن نزرع في أبنائنا الاحترام للوالدين.. وتوقير الكبير.. وتبجيل المعلم. وإنزال الناس منازلهم. لابد من احترام الوالدين وعدم الانصياع لكل رغبات الأبناء وعدم إرهاق الوالدين فوق طاقتهم فيكبر الأبناء وآخر همهم والديهم..
أتذكر أم صديقتي جيلان المصرية، الله يعطيها العافيه، قالت لي ذات مرة لما تشتري حبة شوكلاتة لأولادك خليهم يقسموها بينك وبينهم عشان يتعودوا على عدم نسيانك وأبوهم عند كبرهم واستقلالهم بحياتهم.
وقلت لأبنائي ليس لدي مال لأعلمكم الجامعة.. اجتهدوا واحصلوا على منح.. وأما الجوالات فهي هديتكم عندما تنهون دراسة الثانوية فليس لدي مالاً لأشتري لكم جوالات قبل دخولكم الجامعة..
ولم أفتح شنطة أبنائي منذ أن كانوا في الصف الثالث الابتدائي.. علمتني أمي وطبقت طريقتها ممزوجه بالطريقة الحديثة علنا نفلح..
مع ذلك أنا ضد الانغلاق القديم والإصرار على مواقفنا بحجة أنا أبوك وأفهم منك أو أمك وواجب أنك تسمعيني. علينا توضيح السبب وإقناع أبنائنا وتحميلهم المسؤولية بما يتناسب وأعمارهم وإمكانياتهم العقلية والجسدية.. التوجيه بحب وتشجيعهم وتأهيلهم لخوض معترك الحياة وإفهامهم أن الحياة ليست وردية وأن بها الخير والشر.. وهناك الأصلي والتقليد..
أعتقد أن معظمنا الآن متعلم ومطلع. إنني أرى أنه يجب على شريكي في الحياة قبل الزواج الاطلاع على أسس التربية والأخذ بما يناسب المجتمع والبيئة والعادات والدين.. وعلى الوالدين الآن لأبناء ما زالوا صغاراً أن لا يخجلوا من تثقيف أنفسهم بالوسائل الحديثة للتربية وتفادي الأخطاء التي وقع فيها والدينا أو التي وقعنا فيها في البدايات رغم صعوبة التربية الآن نتيجة تداخل أمور شتى والانفتاح العالمي وكي لا يصبح دور الوالدين الآن هامشياً فعليهم مسؤولية ضخمة أولاً لتثقيف أنفسهم والاطلاع على التطورات الإعلامية ليبقوا على ذات الوتيرة مع أبنائهم وغرس المبادئ الإسلامية الحقة للأسرة المسلمة وأن نكون نحن القدوة الصالحة لأبنائنا..وأن نكون كوالدين بيئة حاضنة وداعمة وألا نكون مجرد منفذين لأوامر الأبناء وتلبية رغباتهم فقط ثم نلومهم بسب أخطائنا في التربية.. الآن أبناؤنا يحتاجون منا انفتاحاً على قلوبهم وعقولهم وأفكارهم... تواصل دائم وارتقاء لمكانتهم واللحاق بكل معلومة وأن نكون دائمًا قبلهم أو نكون على ذات الخطى كي نساعدهم على التجاوز، ونعي كيف يفكرون ونعبي فكرهم قبل أن يأتي غيرنا ويستولي على أفكارهم ومشاعرهم.
مأجورون أيها الوالدان فأنتم اخترتم الإنجاب وعليكم إكمال المهمة... فلا مكان للتراجع الآن.. فأجركم على الله وابتغوا الثواب من الله واستعينوا به لأداء مهامكم الصعبة.. مهمة صنع الأجيال.. قال بعض السلف: من الذنوب ذنوب لا يكفرها إلا الغم بالعيال.