د. محمد بن أحمد غروي
تُعد برامج المنح الدراسية أحد أهم القوى التنموية للبلدان التي يعود إليها أبناؤها المؤهلون من دول الاستضافة الدراسية، ليكونوا أكثر قدرة على المساهمة في عملية التغيير النهضوي الشامل في أوطانهم اقتصاديًا واجتماعيًا وثقافيًا، بل وحتى سياسيًا.
وبصريح العبارة ومن دون مقدمات، فإن برامج المنح الدراسية هي أشبه ما تكون بـ»القوى الناعمة» للبلد المضيف، لذلك تتسابق الدول لتعزيزها وتسهيلها وفق أنماط وأنظمة، تؤتي أُكلها على المديين المتوسط والبعيد، وهو ما أكدته العديد من تجارب الدول التي خاضت غمار ذلك.
من شأن هذه البرامج تعزيز مكانة الدولة المانحة من خلال ما يُعرف بـ»الدبلوماسية العامة العابرة للقارات»، والإسهام في رفع سمعة أنظمة التعليم العالي (الجامعي وما بعده)، فضلًا عن تشكيل فهم وإدراك المتعلم المستقبلي من خلال الانطباعات الإيجابية عن الدولة المضيفة وثقافتها ولغتها وشعبها والحفاظ على الروابط والأواصر بعد عودة الطلبة لأوطانهم.
من مسارات برامج المنح الدراسية، إحداث تأثير وأفق أرحب وفرص أكبر للجهات الفاعلة حكوميًا وأكاديميًا، بل وحتى في القطاع الخاص من الدولة المضيفة، كونها تسهم بشكل غير مباشر في توجيه الرأي العام في البلدان الأخرى نحو مصالحها الوطنية، ضف على ذلك نقل القيم الثقافية، والمكاسب الاقتصادية للدول المتقدمة والمنظمات المتعددة الجنسيات، وهي بحد ذاتها فرصة لنشر قيم البلدان، ويصل الأمر إلى صناعة السلام العالمي الإيجابي.
وبحسب قرار مجلس الوزراء رقم 94، فإن أهداف قبول طلاب المنح في المملكة العربية السعودية إقامة الروابط العلمية والثقافية مع المؤسسات التعليمية والهيئات والمؤسسات الإسلامية والعلمية في العالم وتوثيقها في خدمة الإنسانية، وانطلاقًا من دورها القيادي، تقوم وزارة التعليم بأداء رسالتها السامية على الصعيد الدولي والإقليمي لخدمة الإسلام والمسلمين في كافة المجالات، ومنها تنمية وتأهيل القوى البشرية من خلال تقديم منح دراسية لاستقطاب الطلاب الدوليين المتميزين من جميع بلدان العالم؛ للدراسة في الجامعات الحكومية السعودية في التخصصات النظرية والعلمية والبحثية.
وللتدقيق المنهجي أكثر، فإن برامج المنح الدراسية، يتوافق مع مخرجات رؤية السعودية 2030 من خلال دعم ومشاركة الخريجين بعد تخرجهم في دفع عجلة التطور في بلدانهم بعد عودتهم إليها مؤهلين بالشهادات العلمية التخصصية وتطبيق ما اكتسبوه من مهارات وخبرات في جميع التخصصات.
وما يُحسب للقيادة السعودية، هو أن المنح الحكومية تقدم للطلبة الدوليين سواء المقيمين في داخل المملكة وخارجها، ولم يتم الاقتصار على ذلك، حيث طورت هيئات حكومية محافظ استثمارية معرفية لتمويل المنح البحثية، بما يتماشى مع توجهات بلادنا الإستراتيجية الاقتصادية والشاملة، وأتت منصة «أدرس في السعودية» إحدى المبادرات التي أطلقتها وزارة التعليم لاستقطاب الطلبة الدوليين للدراسة في بلادنا من خلال توفير المعلومات الشاملة واستعراض الفرص التعليمية المتاحة الجامعات السعودية، وتسهيل العمليات الإجرائية بضغطة زر.
على مستوى الواقع الميداني، قابلت العديد ممن تخرجوا من بلادنا، وما زالوا ممتنين للفرص التي وفرتها لهم المملكة، لذلك بالمعنى المجازي والنصي، فإن يمثلون اليوم جذور امتداد للقوى السعودية الناعمة، بل إن معظمهم وقف كسد منيع تجاه حملات التشويه ضد مملكتنا، ولا يريدون من ذلك جزاءً ولا شكورًا؛ لماذا؟ لأن لديهم إيماناً عميقاً ووعياً متجذراً بمواقف السعودية في القضايا الدولية ذات الصلة، وسياسيًا يُعرف ذلك بـ»فهم المواقف» الناجم عن الثقافة الوطنية للمملكة.
برأيي، أنه لا بد من التواصل البنًّاء والفعَّال مع كل طلبة المنح الدراسية، من خلال شبكة تواصل حكومية مُخصصة لذلك؛ لأهميتها على مستوى الوعي الإستراتيجي، بل وفتح باب المنح ليشمل دولًا عدة، وتخصصات متنوعة، لإسهامه في التعريف بنا وبأرضنا وثقافتنا، وهو فوق ذلك قوة دولية ممتدة لمصالحنا الوطنية، ويمكن غيرنا من فهمنا بشكل أعمق، فكثير من القضايا العالقة حالت دون فهم ثقافة الآخر، باختصار غير مخل وبلغة لا يشوبها أي شيء، فإن «باب المنح» يفتح آفاقًا للتنوع وفهم الآخر، ويُعزز من التعايش والسلام العالمي على المدى الطويل، وهي الركيزة التي تسعى قيادتنا الرشيدة لتحقيقها في إدارتها للبوصلة الإقليمية والدولية.