د. إبراهيم بن جلال فضلون
«كوني جميلة ولا تصمتي»، جملتان من ثلاث كلمات نسوية وحرفان هُما نقيضا حياتها العذبة، بمقولة شهيرة للشاعر الفرنسي شارل بودلير، فالأولى يا رب لا شيء فيها فكوني كما أنت «جميلة تحكي»، والثانية أُخالفه فيها جملة وتفصيلاً، فحينما يقول «واصمتي»، أضعف بهاءها وقلل من شأنها الذي هو الحياة ولا غيره منذ أن خلق الله الأرض ومن عليها، فالمواقف الاجتماعية هي خير اختبار لقدراتها ومن يكون متحيزًا ضدها، وهو ما زال سائدًا في كثير من دول العالم، وذلك ما أخرجته نتائج أبحاث ودراسات بينت أن النساء عاجزات عن إيصال أفكارهن بالكلمات، خوفاً أو بسبب التحيز الذكوري ضدهن، والرغبة في الحجر على أفكارهن وطموحاتهن، وهو ما جعل الموسيقي ريتشارد شتراوس يُعلن عن أجمل ما كتب هوغو فون هوفمنشتال الذي كتب له كثير من أوبراته الـ10 التي لحنها في عام 1931 خاصة اقتباسه أوبرالياً لمسرحية الإنجليزي بن جونسون «المرأة الصموت». ممن يُفرض عليهن «الصمت الإجباري» حتى في القضايا المصيرية التي ترتبط بحياتهن الشخصية، وهذا ما أكدته دراسة أجرتها جامعة أريزونا استمرت عشرة أعوام وخرجت بتحذير لكل الزوجات «لا تكتمي مشاعرك ولا تختاري الصمت، فهو خطر على صحتك»...
فما زال الشعور بالتجاهل والنبذ يطوق النساء في كل مكان من العالم، على أساس الجنس الصورة النمطية التي تكرّس فكرة أن النساء ليس لديهن أي إرادة تتجاوز ما يمليه الرجل من أوامر وقرارات، أو المجتمع وعاداته، فالمرأة كثيراً ما تكون مشغولة بدفن بعض المشاعر، وهى أخطر حالة من حالات الصمت، وأخطر من صمت الرجل نفسه. فما تخيلكم معي أيُّها القُراء في ما يلي: خبيرة للاستشارات النفسية، ومُحاضرة للسعادة الحياتية، ومُحللة صحية، نراها في كامل عتادها ونحسبها غير معصومة، فنراها واعية ذات تجارب تمر عليها وتنجح في علاجها أو مشاكا عضال وتقهرها بكلماتها ليكون الحل سهلاً وميسراً بلا جدال، أي أنها تفعل ما يعجز عنه علماء العلم فذلك تخصصها، لكن لم تروا ما بداخلها من بكاء للصموت الغائب عن وعيها ووعينا، نحسبها سعيدة دون أن ندري أنها فراشة لا مكان للطيران لها فيه، حبيسة أهلها وأقرب من عاشت بخيرهما، والدان ترعرعت بين يديهما وفي أحضانهما، قد زوجاها صغيرة لمن يكبرها سناً، لا يعي آمالها فقد أخذها خضراء حُرة، فلم يشعر بآلامها القادمة، لترتمي بسجن لسجان قد أقسم ألا يبرها، فـ «نتف» ريشها، وقص أساريرها، واختطف حياتها، فلا تركها تحيا، ولا تركها تموت، وقد أنجبا قمرين للدنيا، ولم يُعطها أمرها التي قدمت كل ما ملكته من خبرات للحفاظ على مسكنها ومن سكنت إليه، وهو لم يسكن إليها بخير ورضا، فيا أيها السجانُ أنت السجين، لنفس أتتك برضا الله راجية السكينة، فلا أنت أعطيتها الراحة ولا أنت تركت الهواء لمتنفسها، فإذا أُصيب الفرس بداء أو على حين غفلة قتلوها رحمة بها، فما بالك تتركها، والحبل بيديك مربوط، ومن يُمسكُ به معك أهل وأحبة يتناوبون عليها لتعود فهجرتهم، ولم يتركها جحيمهم، لأجل عرض في النفس أو خوف عليها بعد مماتهم، وكأنهم يقولون «ضل رجل ولا ضل حيطة»، رجل أهان البشرية فيها، وخنق الحياة وأبناءها معها،... فلا تعلمون إذا المرأة كتمت غيظها.. فلا تأممن مكرها، فإن كيدهُن عظيم.. فمنهن من يُقرر الصمت بديلاً عن هدم الحياة الأسرية، ومنهن من هي أقوى فتفضل الابتعاد والانفصال.
إن الحياة ليست كبيرة فساعاتها قليلة، لكن لغات أخرى أبوابها مفتوحة فكثيرات من النساء إذا وقفت الدنيا ضدها تجدهُن لا يُعبرن إلا أن (يتحدثن بأجسادهن)، لدرجة أن من حولها ومن يراها لن يلاحظ بالضرورة قلة كلامهن. جراء طائفة من السلوكيات العدائية والكارهة لهُن بشكل عام، بمجموعة من القيود والأعراف البالية التي عفا عليها الزمن، والتي لا تنظر إلى المرأة على أنها «كائن عاقل» لهُ رأيه بكل حرية، مهما حققت من نجاح واستقلالية، فعندما تصاب الزوجة بحالة من فقدان الأمل فى الإصلاح والضغط النفسي الشديد واليأس والشعور بعدم الجدوى من الحياة أو الكلام، تكون العاقبة أسوأ نتيجة فتقرر الصمت غالبًا ما تصاب بالاكتئاب الشديد والاضطرابات «النفسجسمانية» جراء سلسلة محاولات كثيرة فاشلة لإصلاح حياتها الزوجية، فبدلاً من التعبير بالكلام يتحول للجسم فى صورة آلام ومتاعب أساسها نفسى، وهذه هي الضريبة التي تدفعها معظم النساء الناجحات في عملهن، فالنجاح ليس شيئاً يأتي بمفرده، ففي عَنْوَان دراسة «الجنس الصامت»، للباحثين كريس كاربوويتز وتالي مينديلبيرغ وُجد فوضى عارمة ضد تلك المرأة، وأن هناك حاجة إلى تعزيز الوعي بقلة الفرص المتاحة أمام المرأة للحديث مقارنة بما يتاح للرجل.
فيا أيها الآباء، ارحموا بناتكم، ولا تلقوا بهن إلى التهلكة فتندموا بسؤال الله يوم القيامة، فقد كرهت فلا تجبروها بالعودة لمن لا يُقدر مكانها التي عاشت فيها بينكم وتربت، وقدموا لهُهن الدعم وفق قيم البلاد والخالق، عسى أن يجدن السعادة مع غير إنسان حبسها، فالمرأة فراشة إن حُبست ماتت ومات معها حياتها. فـ»المرأة الصموت» تُجل وتتحمل لآخر لحظات السعادة في عمر البشرية، لتأتي اللحظة المفصلية وتُغير مجريات تاريخها الصامت في فصول الأوبرا التي تروي لنا الكيفية التي تعيش فيها في مجتمع لا يُبالي بها.