أ.د. يحيى بن محمد شيخ أبو الخير
كما أطَّر هذا المنظور أيضاً من طرق التعاملات العلمية مع الأطر المرجعية الآثارية الاستشراقية وتوجهاتها الفكرية ومنطلقاتها التفسيرية للكتابات والنقوش الآثارية التي تختلف حسب الدكتور الأنصاري طيب الله ثراه عن منطلقاتنا التفسيرية لها في ذات المجال. فمن خلال منظوره رحمه الله تم الفصل منهجياً بين بنية منظوره المفاهيمية الحقيقية وعشوائية التنظير الجامح التي قد يأويها من ناحية، وفرص النظر المحتملة الجانحة التي قد تعتريه من ناحية أخرى. كل تلك الجهود قد شكلت في نهاية المطاف منظوراً آثارياً فريداً ذا علامة منهجية فارقة نظرياً وتطبيقياً.
وقد لعبت تلك العلامة الفارقة في الساحة الأكاديمية الآثارية الوطنية دوراً حيوياً فاعلاً مكّن في رأيي المتواضع المنظور الآثاري لمدرسة الأنصاري من اشتقاق السرديات الآثارية المحكمة التعميمات التنظيرية الصادقة التي أخضعها رحمه الله عبر منظوره لفرص ما أسميه بمبدأ التكذيب البوبري (بوبر، 1997) متجاوزاً رحمه الله بكل كفاءة واقتدار فرص ما أسميه بالبرهان الكووني (كون، 2007) المعطل لصيرورة المنجز الآثاري البشرى المأمول. وقد أدى هذا التأصيل المنهجي المعرفي الراجع التغذية إلى نقله طيب الله ثراه أصوليات السرد الآثاري وتطبيقاته من مرحلة المعلومات إلى مرحلة المفاهيم ومن مرحلة التجريد الوصفي المحض إلى مرحلة التأسيس المكاني والإسقاطات الجيوانثروآثارية وليس ذلك فحسب بل ومن مرحلة التعميم الاستقرائي إلى مرحلة التعميم الاستقراء - استدلالي المكاني الموحد ديدن الفكر المعاصر ومنهجه العلمي الرشيد (أبوالخير، 1995). ولهذا تفرد هذا المنظور نظرياً وتطبيقياً وتميز في قدرته على تحويل الحقائق الآثارية غير المنظمة عبر آليات التبويب والتصنيف ومنطقية القياس إلى حقائق منظمة (ابوالخير، 1992). بل جانس رحمه الله بين منظوره الآثاري وأطر الحقائق والقرائن الجائزة التي وظفها رحمه الله لتقرير مدى ملاءمة سيناريوهات النظر المفترضة لنماذج المحاكاة القبلية المحتملة للهيئة الميدانية التنقيبية التي تقتضيها مثلاً البنية الإجرائية المكانية في الفاو والعلا وغيرها من المواضع الآثارية بالمملكة العربية السعودية للمنظور الآثاري لمدرسة الأنصاري.
بعد هذا الاستهلال المفصل نوعاً ما أستسمحكم قرائي الأعزاء أن أسرد عليكم فيما تبقى من متن هذا المقال أهم القضايا الحيوية التنظيرية والتطبيقية التي يشملها المنظور الآثاري لمدرسة الأستاذ الدكتور عبد الرحمن الأنصاري. وفيما يلي شرح لتلك القضايا على النحو التالي:
- القضية الأولى: النقوش والكتابات العربية القديمة: انطلاقاً من تخصص الأستاذ الدكتور الأنصاري رحمه الله في النقوش والكتابات العربية القديمة في مرحلة الدكتوراه واللغة العربية في مرحلة البكالوريوس فقد حظيت هذه القضية باهتمامات الدكتور الأنصاري العلمية النظرية والتطبيقية في مرحلة مبكرة جداً أثناء بعثته وبعد عودته منها. وفي هذا الصدد أشار طيب الله ثراه في أكثر من مصدر مقروء ومرئي ومسموع كالمحاضرة التي ألقاها طيب الله ثراه في منتدى الجمعة بالرياض عام 2011 بعنوان «نظرات في آثار الجزيرة العربية» إلى أن بعض الرحالة الغربيين قد اهتموا منذ زمن ليس بالقصير بالنقوش والكتابات العربية القديمة بجزيرة العرب واستخلصوا منها قوائم بالدول العربية القديمة. كما وضع أولئك الرحالة سلاسل لأسماء الملوك وأسماء الأمراء الذين عاشوا في شمال الجزيرة العربية وجنوبها. ومع كل ذلك الاهتمام بدراسة النقوش والكتابات العربية القديمة إلا أن أولئك الغربيين لم يفيدوا غيرهم بها كما أنهم لم يهتموا منهجياً بالتسلسل التاريخي الآثاري لهذه النقوش والكتابات فدرسوها منفصلة عن تسلسلها الطبقي أو التاريخي الذي يجب أن يتبع في تنقيب المواقع الأثرية. ولسد هذا النقص المنهجي قام رحمه الله بوضع برنامج بحثي شامل دقيق تم بموجبه جمع النقوش والكتابات العربية القديمة في المملكة العربية السعودية وتطوير سبل الكشف عنها وتفسيرها وتبويبها وتصنيفها، وقياسها وتزمينها وربطه لها رحمه الله بواقع من حسه المكاني بالمواضع التي اكتشفت فيها وسلسلتها تاريخياً ضمن الحضارة التي تعود إليها تلك النقوش والكتابات. ولا شك قد مثل ذلك البرنامج وسبل تنفيذه معاً البنية التحتية الأساس التي شيد عليها طيب الله ثراه قواعد منظوره الآثاري وأرسى أصوله منذ مرحلة مبكرة من تاريخه الأكاديمي بعد عودته من البعثة كما أشرت إلى ذلك آنفاً. وتطبيقاً لتلك البنية التحتية وتحقيقاً لأهداف خطتها التنفيذية. فقد ربط جعل الله الجنة مثواه النقوش والكتابات التي درسها في كل من الفاو والعلا على سبيل المثال لا الحصر بفترتها التاريخية وبالتسلسل الزمني للمواقع التي تعود إليها أو التي اكتشفت فيها، وليس ذلك فحسب بل ربط رحمه الله أيضاً بواقع من حسه المكاني بين النقوش والكتابات قيد البحث وبين الثقافة التي تحتويها المواضع التي اكتشفت فيها.
- القضية الثانية: تزمين حضارات الجزيرة العربية وترتيبها تاريخياً: يشمل منظور الدكتور الأنصاري أيضاً قضية هامة أخرى تتعلق بضرورة تزمين حضارات الجزيرة العربية وترتيبها حسب تسلسلها التاريخي وسماتها المكانية الأنثروجيوبولوجية بدلاً من دراسة كل حضارة منفردة عن غيرها كما كانت تدرس من قبل مثلاً طسم وجديس وسبأ وتدمر دونما رابط تاريخي يجمعها. وقد سبب هذا الأمر لدارسي تاريخ الجزيرة العربية وآثارها أزمة علمية استعصى حلها عقوداً عديدة كما أدى ذلك في الوقت نفسه إلى حدوث بلبلة بين المتلقين لهذا العلم وخاصة بين أولئك من غير المختصين الذين لا يستطيعون النظر في الأمر وتحرير الرأي فيه. ولحل هذه الأزمة وأسوة بما فعله الآثاريون في مصر والأردن وسوريا والعراق، قدم رحمه الله لقسم الآثار والمتاحف بجامعة الملك سعود خطة عمل ضافية ليتم بموجبها تزمين حضارات الجزيرة العربية وربطها ببعضها تاريخياً وتصويب الأخطاء التي تضمنتها بعض متون المؤرخين المسلمين التي كتبت بعد عقود عدة من الأحداث التي وقعت في تلك الحضارات قيد النظر. وبناءً على تلك الخطة استطاع الدكتور الأنصاري طيب الله ثراه ومن عملوا معه من زملائه في هذا المجال ربط الحضارات ببعضها ربطاً منظومياً محكماً، وتزمينها تاريخياً وثبتها تنازلياً من أقدم الحضارات إلى أحدثها زمكانياً بما في ذلك الفئة التي اصطلح على تسميتها بثقافات الجزيرة العربية التي انتشرت آنذاك في معظم أرجائها. وأول ما بدأ به هذا التزمين هي حضارات الجزيرة العربية في فجر التاريخ التي تمتد من الألف السادس حتى الألف الرابع قبل الميلاد (العبيد، فثقافات هيلي وأم النار ودلمون).
وتعد حضارة العبيد التي سادت في شرق الجزيرة العربية في الفترة الممتدة من 5400 إلى 3600 قبل الميلاد أقدم حضارات فجر التاريخ في الجزيرة العربية. واختلف علماء التاريخ والآثار في بلد منشأ هذه الحضارة، فبعضهم يرى ومنهم الدكتور الأنصاري أنها نشأت في شرق الجزيرة العربية أصلاً ثم انتقلت في مرحلة من تاريخها إلى العراق والبعض الآخر يعتقد عكس ذلك ويرجح نشأتها ابتداءً في منطقة العبيد بالعراق قبل أن تنتقل فيما بعد إلى شرق جزيرة العرب. وقد تلت حضارات الجزيرة العربية في فجر التاريخ تاريخياً ثقافات الأمم العربية الغابرة (عاد، ثمود) حيث سادت منازل عاد كما يعتقد بعض الآثاريين بمنطقة إرم ومنهم الدكتور الأنصاري رحمه الله في النصف الأول للألف الرابع قبل الميلاد، بينما سادت منازل ثمود عند البعض الآخر منهم، كما يشير إلى ذلك الدكتور الأنصاري طيب الله ثراه» في الحجر أو ربما في غيرها من الأماكن خلال النصف الثاني للألف الرابع قبل الميلاد. وأُتبع ذلك التسلسل بحقبة ثقافات الممالك العربية المبكرة (صبرا، مدين، أدوم، عمون، مؤاب، قيدان) التي استمرت من الألف الثاني قبل الميلاد حتى النصف الأول من الألف الأول قبل الميلاد لتعقبها في التصنيف ثقافات الممالك العربية الوسيطة (سبأ، ديدان، لحيان، دومة الجندل، معين، قتبان، الانباط،، ومملكة كندة) التي سادت خلال الحقبة الممتدة من الألف الأول إلى القرن الأول قبل الميلاد، لينتهي ذلك التصنيف بثقافات الممالك العربية المتأخرة (العدنانيون أو المعديون، سبأ الثانية، تدمر، حضر العراق، حمير الثانية، قحطان، مذحج، الغساسنة، المناذرة، وذي ريدان، وكندة الثانية) التي أُرِّخت بالقرن الأول قبل الميلاد (الأنصاري 1969 ، الأنصاري وأبو الحسن، 2005، الأنصاري 2011).