د. محمد بن إبراهيم الملحم
هذه هي الفتلة الأخيرة من السلسلة التي أتحدث فيها عن مسلسل «خيوط المعازيب» الرمضاني والذي كان حديث المجتمع لفترة كما لفت انتباه الكثيرين لأسباب متعددة أبرزت العمل أهمها أنه أول عمل يقدم تراث محافظة مهمة من محافظات المملكة ذات إرث تاريخي عريق وممتد هي الأحساء، قدمت فيه البيئة واللهجة والعادات والتقاليد والمعمار وكثير من معالم الحياة الأحسائية القديمة والتي تتقاطع بدون شك مع نظيراتها في مناطق المملكة الأخرى وكذلك بالطبع دول الخليج القريبة منها، مما أكسب المسلسل قيمة وطنية وخلق له روابط انتمائية قوية وشد كل فئات المشاهدين إليه سواء كانوا كباراً يسترجعون الذكرى أو صغاراً يكتشفون تلك الحقبة مطلين عليها إطلالة تدمجهم في خليط الزمان والمكان وتكسبهم معرفة أعمق ووعياً أكثر نضجاً.
الفتلات قلّبت نسيج هذا العمل من أوجهه المتعددة وتحركت في ثنايا خيوطه المحبوكة وتلك المنفلتة لتقدم للقارئ قراءة أدبية وفنية وتاريخية وتحاول إشعال إضاءات تساعد الأعمال القادمة على تجنب كل مستويات النقص كبيرها وصغيرها، وليس ذلك لهدف النقد ذاته بقدر ما هو اهتمام بمثل هذه الأعمال الجميلة في ذاتها وكينونتها وهدفها لتقدم للمشاهدين بلدتي الجميلة الأحساء كما عرفتها وعرفها كل أبناء جيلي ومن سبقهم، فهذا العمل وإن بدا مثالاً ناقصاً لبيئة الأحساء كما قيّمه كثيرون لما وقع فيه من النقائص سواء التي ذكرتها مقالاتي الست السالفة أو ما تعرض له غيري فهو كبداية يعتبر انطلاقة جريئة وعملاً ضخماً وقصة جاذبة قدم للمشاهد أنموذجاً مقارباً للحياة الأحسائية ووضح له معالمها بدرجة دنت من الواقع، وهو ما يشجع لأعمال قادمة فبيئة الأحساء بما فيها من تنوع كبير جداً في مجالات العمل وطريقة الحياة الاجتماعية وظروف الفرص الاقتصادية والعلاقات مع الجوار الخليجي القريب والتقلبات السياسية في تاريخها والتنوع الكبير في سوسيولوجية مجتمعاتها باختلاف بلداتها (الهفوف والمبرز والعيون والقرى والبادية) وكذلك التنوع الداخلي في بيئاتها الصغرى (مثلاً اختلافات بين الكوت والنعاثل والمبرز والقرى ...الخ) ويضاف له المحطات التاريخية المهمة في الأحساء مثل من عهد بني قيس وقدومهم على نبينا صلى الله عليه وسلم إلى عهد الشيخ محمد بن عبدالوهاب ورحلاته لطلب العلم ثم رسائله لمشايخ الأحساء والعهد التركي بالأحساء وحكم آل سعود منذ فيصل بن تركي مروراً بمرحلة بيت البيعة في الكوت مع الملك عبدالعزيز طيب الله ثراه ومعركة كنزان وإمارة عبدالله بن جلوي وأرامكو والسكة الحديد ودخول التعليم وأسواقها المتنوعة سوق الخميس بالهفوف وسوق الجمعة بالطرف وسوق الأربعاء بالمبرز وغيرها والقيصرية وسوق الإبل وسوق البقر والحمير والصناعات اليدوية بالخوص والفخار وغيرها والبيئات المتنوعة من بحيرة الأصفر إلى رمال الربع الخالي وجبال القارة والشبعاء وكنزان والشعبة والأربع والمشقر وميناء العقير وبحر سلوى والدحول والأنهار التي تجريها عيونها الخدود وأم سبعة والحارة وكثير جداً من المظاهر والأحداث التي يمكن توظيفها بطريقة جميلة وغنية وملهمة في نص سردي ممتع ينقل المشاهد إلى زمن مضى كانت فيه كل هذه العناصر تضج بالحياة والأحداث وتعكس واقعاً مختلفاً عن واقع اليوم كثيراً لتحكي قصالأجداد وكفاحهم ومعاناتهم.
العمل الذي قدمه فريق خيوط المعازيب عمل فني جيد لما بعثه من اهتمام بالمنطقة ولفتة مهمة لأهلها في طيبتهم ولهجتهم وعاداتهم وطريقة حياتهم البسيطة جداً والتي تعكس بساطتهم هم أنفسهم وتعاملهم مع حياتهم بسلام تام عكسته كثير من مواقف القصة، وأتمنى أن يبادر كتاب القصة الأحسائيون بنص مفعم بالحياة الأحسائية القديمة يبرز تفاصيلها الجميلة ويقدم ملامحها التي غابت عنا اليوم أو كادت ويشرح معاناة الفرد الأحسائي القديم ويقدم تصويراً متكاملاً للبيت والشارع والإنسان بالأحساء كما عرفناها جميعاً أو رويت لنا بحسب الحقبة التاريخية التي سيقع فيها النص. لا أدعي أن هذه مهمة سهلة فهي تحتاج إلى كثير من الدراسة والبحث والفهم المتعمق لتلك الحقبة خاصة من كتاب القصة غير المخضرمين، وإن كنت أتمنى أن يتولى ذلك كتاب عاشوا تلك الفترة وملكوا أداة الكتابة باقتدار مثل كتاب القصة القديرين الأستاذ خليل الفزيع والأستاذ عبدالله الوصالي فهما أبناء الأرض الأحسائية ولديهم القدرة كمخضرمين على تقديم الصورة التي نطمح لها، ولهم أمثال من الكتاب القديرين ولا أحصر الأسماء هنا بقدر الاستشهاد فقط، ويبقى أن يجتهدوا في سردية مشوقة تناسب ما تتطلبه الأعمال الدرامية من دهشة وشد انتباه مستمرين، بالنسبة للتنفيذ الدرامي فإني أنصح الإخوة المخرجين أن يستعينوا بشخصيات أحسائية مخضرمة متقنة للهجتها وتاريخها ليقوموا بالمراجعات اللازمة وتقديم المقترحات التوفيقية لتلاؤم العمل الفني مع الواقع القديم، كما يجب أن يجتهد الممثلون الأحسائيون الكرام خاصة الكبار منهم في إتقان اللهجة، حتى لو كانوا نسوها وتغير لسان أحدهم عن لهجته الأحسائية الأم فلا ينبغي أن يخفق أبناء الأحساء في تلبس لهجتهم مرة أخرى وتقديمها للجمهور بأمانة وإلا فليتركوا ذلك لغير الأحسائيين المتقنين لتقليد اللهجات فربما مع معايشة للأحسائيين وبعض التدريب المكثف سيتمكنوا من تقديم اللهجة الأحسائية أفضل من بعض أبنائها، أقول ربما، كما أن الاستعانة ببعض الممثلين الأحسائيين المبتدئين (أو المغمورين) والمتقنين للهجة قد يكون حلاً مثالياً خاصة إذا تمت تقوية أدائهم من خلال تدريب مكثف وأعمال تسبق العمل الأساس. وأسأل الله أن يوفق كل من يسعى لخدمة أحسائنا الجميلة.