أ.د. يحيى بن محمد شيخ أبو الخير
وفي بداية القرن الرابع الميلادي غزا الملك أمرؤ القيس المنذري نجران مروراً بالفاو لمحاربة ملك حمير هناك. ويشير الدكتور الأنصاري -طيب الله ثراه- في هذا الصدد إلى أن كل النقوش التي اكتشفت في ممالك جنوب الجزيرة العربية تسمي قرية الفاو بكندة وبذات كهل أيضاً نسبة إلى معبودهم كهل. ولكنه لم يجد رحمه الله نقوشاً أو كتابات تؤكد أن قرية الفاو هي كندة، بل على العكس من ذلك تؤكد تلك النقوش أن قحطان التي تعود إلى القرن الثالث الميلادي؛ أي في عهد ملك قحطان ومذحج معاوية بن ربيعة هي التي حكمت قرية الفاو آنذاك.
ويؤكد -رحمه الله- أن كندة انتقلت في مرحلة من تاريخها إلى الشمال بعد سقوطها في الجنوب واستقرت في القصيم وفي حفر الباطن وربما في غيرها من بلدان شمال جزيرة العرب باسم كندة الثانية. وكانت الحروب آنذاك سجالاً بين الغساسنة وكندة الثانية، ولذا حسب الدكتور الأنصاري كانت دومة الجندل محط حكم السكونيين عندما ينتصر الكنديون، أما إذا انتصر الغساسنة فتحكمها قبيلة كلب التي سيطرت آنذاك على منطقة الجوف. وعلى أية حال يؤكد -رحمه الله- أن دومة الجندل وقت بزوغ الإسلام كانت تحت حكم السكوني الكندي (الأكيبر السكوني) ولم تكن نتيجة لذلك تحت حكم قبيلة كلب.
- القضية الثالثة: السرد التاريخي للأقوام البائدة في القرآن الكريم: في مقال عن الثمودية كما أرخها القرآن الكريم ومقال آخر عن فهم السرد التاريخي للأقوام البائدة في القرآن الكريم أحدث من سابقه في النشر أضاف الدكتور الأنصاري إلى قضايا منظوره القرآن الكريم كمصدر هام استمد منه -رحمه الله- بدقة الإطار التاريخي لأقوام جزيرة العرب الذين يتعذر تتبعهم تاريخيا في التوراة والإنجيل، وعلى وجه الخصوص قومي عاد وثمود اللذين تفرد القرآن الكريم بذكرهما في عدة سياقات دونما سواه من الكتب السماوية (الأنصاري، 2001، الانصاري وأبوالخير، 2014). علما أن الفراعنة حسب الدكتور الأنصاري كانت لديهم معرفة كاملة بقومي عاد وثمود معزياً ذلك رحمه الله إلى ما أوضحه القرآن في سورة غافر وتحديداً في الآيتين الثلاثون والحادية والثلاثون على التوالي من هذه السورة الكريمة التي أوردهما الله عزوجل على لسان واحدٍ من قوم فرعون يخفي إيمانه قائلاً عزوجل {وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُم مِّثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ} «الآية30»، {مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعِبَادِ} «الآية31».
مما سبق يتبين إذن أن القرآن الكريم تتم أركان الاحتجاج فيه وتكتمل كمصدر تاريخي لأحداث كثيرة تتماشى مع ما وصل إلينا من أخبار من غير سبيل القرآن أو قد تختلف عنه، وخاصة عندما يورد القرآن الحدث بمجرياته المكانية والتاريخية الآثارية بكل تفصيل، ويبرز زمان ذلك الحدث مرتباً تاريخياً من الأقدم إلى الأحدث وفق أدوات الضبط التاريخي المعتادة مثل: قبل، وبعد، وقروناً بين ذلك كثيراً مما يلقي بكل تأكيد ظلالا على سرد قرآني ذي أهمية منهجية فريدة غير مسبوقة تاريخياً (الأنصاري 2001 «ص ص 9-10، الأنصاري وأبوالخير، 2014 ص116). وعليه فقد رتب الدكتور الأنصاري السرد القرآني الجيوتاريخي الزمكاني للأقوام البائدة في جزيرة العرب زمنياً أو تاريخياً حسب السور القرآنية على النحو التالي: (الأنصاري وابوالخير،2014 ، ص116).
- قوم نوح 6000 ق.م
- قوم هود (عاد) 4000 ق.م
- قوم صالح (ثمود) 3500 ق.م
- قوما إبراهيم ولوط1800 ق.م
- قوم شعيب (مدين 1500 ق.م
- قوم فرعون (موسى) 1200 ق.م
أما أصحاب الرس الذين يعدون فرعاً عن ثمود وأصحاب الأيكة الذين يعدون فرعاً عن مدين، لم يرد ذكرهم في التصنيف الزمني أعلاه نتيجة لهذا التفريع الحضاري قيد الثبت والتدوين (الأنصاري وأبوالخير، 2014، ص116).
- القضية الرابعة: نقض تقسيم العرب الى عرب بائدة وعرب عاربة ومستعربة: يتضمن المنظور الآثاري لمدرسة الأنصاري عددا من القضايا الهامة التي تحوي أنساقاً تناصيه ذات أبعادٍ مفاهيميةٍ تحديثيةٍ تفكيكيةٍ توليديةٍ استقراء- استدلاليةٍ غير مألوفة في بعض الأحايين في الساحة الأكاديمية الآثارية مما يجعلها على الدوام محط الحوار والنقاشات الجادة الهادفة بين المتخصصين في مختلف المجالات الآثارية. وليس ذلك فحسب، بل تحوي هذه القضايا أيضاً مساراتٍ آثاريه زمكانية للنظر والتنظير ومنهجياتٍ للتحقق والتدوين الآثاري التي سعى رحمه الله لتوظيفها حسب منظوره في تصحيح الأنساق التي تخالف الواقع وتشذ عن بنية التناص الآثاري التي يقتضيها مشرط النقد التحليلي العلمي الموضوعي.
ولعل من أهم الأمثلة على تلك القضايا التي يتضمنها المنظور الآثاري لمدرسة الأنصاري هي القضية التي تتعلق بنقضه رحمه الله تقسيم العرب إلى عرب بائدة، وعرب عاربة، وعرب مستعربة. والعرب العاربة حسب هذا التقسيم هم القحطانيون أو العرب الأقحاح اللذين استوطنوا جنوب الجزيرة العربية، بينما لا يُعد العدنانيون عرباً في الأصل لأنهم وفقاً لهذا التقسيم جاءوا إلى الجزيرة العربية من خارجها واستوطنوا أقاليمها الشمالية، وهو أمر يرفضه الدكتور الأنصاري رفضاً باتاً ويعتبره غير صحيح بل كان يؤكد رحمه الله على أن حضارات الجزيرة العربية هي شمالية المنشأ وليست جنوبية الموطن كما كان يظن.
وقد ساق -طيب الله ثراه- عددا من الحجج التي تعزز رفضه ذلك التقسيم ونقضه له ومنها أنه تقسيم حديث بدأ في القرن الثالث الهجري وبالتحديد في العهد الأموي، ولم يكن تقسيماً معروفاً عند العرب قبل ذلك القرن. والأدهى من ذلك أن الأمويين - حسب ما ذكره -رحمه الله- في محاضرته بمنتدى الجمعة المشار اليها آنفاً في أجزاء سابقة من المقال - قد استغلوا هذا التقسيم سياسياً لرفع أقوام في الجزيرة العربية وخفض آخرين فيها مستفيدين من الصراع القبلي الذي كانت تدور رحاه آنذاك بين القيسيين والمضريين. واستشهد الدكتور الأنصاري - طيب الله ثراه- في تلك المحاضرة على عدم صحة هذا التقسيم ًبالحديث الصحيح الذي رواه مسلم رحمه الله ونصه أنه «مر النبي صلى الله عليه وسلم على نفر من «أسلم» ينتصلون فقا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ارموا بني إسماعيل فإن أباكم كان رامياً ارموا». وقد كان بني أسلم من بني خزاعة وخزاعة من بني الأزد وهم من القبائل اليمانية القحطانية وليسوا من عدناني شمال جزيرة العرب. ولذا يستنبط من هذا الحديث أن جميع العرب ينتسبون إلى مصدر واحد جينياً، فلا فرق إذا ًبناءاً على هذا الحديث بين ما يسمى بالعرب العاربة والعرب المستعربة فجميعهم في حقيقة الأمر عرب أقحاح.