أ.د.عبد الله بن سليم الرشيد
في ربيع الأول من عام 1409ه ( تشرين الأول 1988) -وكنتُ في الثالثة والعشرين- سهرتُ على تدبيج مقالة، طنّ موضوعها في ذهني، دون سابق إعداد، سوى فُكيرات كانت تجول ولا تصول، وبعد أن أنهيتها، بعثتها في الغداة إلى (مرآة الجامعة)، الصحيفة الداخلية لجامعة الإمام محمد بن سعود، وحرَصت على أن أنحلها عنوانًا مثيرًا، عاطفًا للنظر، فكان (يا معشر النحاة، أكلتكم البراغيث).
بعثتها للصحيفة، وأنا خِلْو الذهن، غير منتظر إلا ردَّ فعل عابر، ولكنّ الذي وقع كان أكبر من كلّ التوقعات.
كتبتُها وأنا يَفَعَ، غِرّ، لم تنجِّذْني مداورة الشؤون، حديث عهد بالتخرّج، وكنت إلى ذلك قميئًا هزيلًا، تقتحمني العين، ولا يلتفت إليّ من حقارة جسمي أحد، سوى أهلي، إذا احتاجوا إليّ.
كانت المقالة متدفّقة العاطفة، غير محكومة بمنطق علمي، فيها من التهوّر أضعاف ما فيها من الأناة والرويّة، وجُلّ جملها مرفرفٌ في عالم الفن، متفلّتٌ من قيود المنطق والجدل العلمي الصحيح، وفيها خلطٌ بين ما يصلح أن يُدرّس للمختص وما يدرّس لغيره، ولكنها أنبأتْ عن رغبتي العارمة في أن يُجعل (النحو العربي) على طرف الثُّمام، سمحًا ميسّرًا، وأن يكون للعربية هيبتُها في كلّ مكان، وأن تُصان وتُحفَظ في تعاملاتنا الخاصة والعامة، ولهذا كان مما ورد فيها: (متى نرى النحو ألهيّة أو لعبة نستمتعُ بها، لا قيدًا نقيّد به، أو حبالًا غلاظًا تُلَفّ حول رقابنا، متى نرى النحو يركض على الطرق السريعة، ويصعدُ في ناطحات السحاب، ويطفو في أقداح القهوة والشاي، متى نرى اللغة العربية برمّتها تتزحلقُ على الجليد، وتصعدُ إلى القمر، بدلًا من أن تدفن رأسها في الكتب الصفراء وخزائن الكتب المغبرّة).
لقد عصفت المقالة في أروقة الجامعة عصفًا شديدًا، وكثر اللغط فيها، وفي كاتبها، فكانت مجالاً لتعليقات الأساتذة في القاعات، ووسيلة للطلاب للخروج من سأم الجِدّ، ورتابة الدروس، وأكبر جدل أثارته كان في مجلس قسم النحو والصرف، في كلية اللغة العربية، فقد عُرض الموضوع على أعضاء المجلس، وتداولوه، وأعادوا فيه وأبدؤوا، ثم رفعوا خطابًا لمجلس الكلية، الذي رفع عريضة لمدير الجامعة، يطلب فيها التحقيق مع الكاتب، ورئيس تحرير المرآة عبدالقادر طاش رحمه الله!
وكنتُ حينما نُشِرت المقالة مذبذَبًا بين الرياض والأحساء، فقد نُقلتُ معيدًا، إلى قسم اللغة العربية، بكلية الشريعة والدراسات الإسلامية هناك، ولكني لم أستقرّ؛ لأني استوخمتُ جوّ الأحساء الخانق الرطب -وأنا فرّار غير كرّار في الأجواء الرطبة- ووافق بدءُ عملي فيها بداية الصيف، وما فيه من عواصف غبارية، فحاولت العودة إلى الرياض، وقدّمت، قبل نشر المقالة، خطابًا يتضمّن تلك الرغبة، واتفق أن تأخّر، فلم يُعرَض على مجلس الكلية إلا بعد نشر المقالة بأيام! ويا لبهجةِ الحظّ العجيب! فكانت معارضة مجلس الكلية شديدة جدًّا.
فلما سُدّ طريق العودة في وجهي، انتقلتُ مدرّسًا إلى المعهد العلمي بالملز. وأما طلب التحقيق معي ومع عبدالقادر طاش، فقد أحاله مدير الجامعة آنذاك الدكتور عبدالله التركي إلى أمين المجلس العلمي الدكتور محمد العجلان- رحمه الله-، وكان وكيلًا للجامعة أيضًا، (وصار مديرًا لها فيما بعد) فجعله في بعض الأدراج وتناساه، على ما بلغني.
بعد نشر المقالة، توالت مقالات عدة، أسهم في كتابتها طلابٌ وأساتذة، وجَرَتْ مناوشاتٌ ومحاورات، نُشِرَ جُلُّها في (المرآة)، بعد نشر مقالتي بنحو أسبوع، وأكثر، وظلت تنهال على المرآة، حتى أُمِر بوقفها، وممن شارك في الجدل والنقاش عبدالله بن حامد وإبراهيم أبوعباة وصالح العايد، وعبدالله بن زيد الداود، وعبدالمحسن العسكر، وزارع الشهري وآخرون. (رحم الله المتوفَّين، وبارك في أعمار الأحياء)، ثم نقَل عبدالله بن حامد فكرة الموضوع والنقاش فيه إلى جريدة الرياض، فنشر مقالة في صفحة كاملة.
وشارك في التعليق والنقاش أساتذة من خارج الجامعة، منهم الدكتور حسين نصّار الذي كان مستشارًا في التعليم العالي، وقد كتب بخط يده، ورقة أوصِلتْ إليّ، وما تزال عندي، فيها أن ما أثاره الكاتب ليس جديدًا، وأنه فيما يبدو شابٌّ راغب في الشهرة فحسب، والرأي ألا يُرَدّ عليه!
وحين رأيت المسألة استشرت، وأن النفوس تغيّرتْ عليّ، وأنّ الشكوك والظنون السود بدأت تدبّ حولي، وبعد أن نَـمَتْ إليّ اتهاماتٌ أطلِقت عليّ في بعض المجالس (ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد)، من قبيل (الحداثي)، و(المارق)! عمدتُ إلى كتابة مقالة ثانية جعلتُ عنوانها (يا نحاةَ القرن العشرين، إنها نفثة مصدور)، وفيها أبَنتُ ما غمُض من وجهة النظر، ودفعتُ عني ما علِق بي من سوء الظنّ، وبدأتها بهذه الجمل: (أنكرتُ نفسي بعده (أي المقال)، فأصبحتُ حين أمشي في ردهاتِ تلكم الكلية، أُنكِرُ النظرات، وأستوحشُ من الوجوه، وإذا بالعيون التي كانت تبسمُ لي، تزْوَرّ وفي بريقها غضبٌ، وفي لحظاتها مَوجِدةٌ وعتاب، ويدور الهمس:انجُ سعد، فقد هلك سُعَيد، إن الملأ يأتمرون بك...)، ويبدو أنها زادت حطب النار المشتعلة، من حيث أردتُ إخمادها. ومن تأمّل الأسلوب الذي كتبتُ به المقالتين أدرك أني مهوّم في الأدب، غير كُفْءٍ لأن أناقش مسائل علمية آنذاك.
وظنّ بعضُ متابعي المسألة، أني نُقِلتُ إلى الأحساء تأديبًا، وليس الأمر كذلك، فقد نُشِرتْ وأنا في الأحساء، وقيل ما قيل، وكان كَرٌّ وفَرٌّ، وما آفةُ الأخبار إلا رواتها.
وجهًا لوجه مع مدير الجامعة:
بعد أن انتقلتُ إلى المعهد العلمي في الملز، وبعد نحو ثلاثة أشهر من نشر المقالة، فوجئت بمدير المعهد الشيخ مبارك بن محمد الرشود- رحمه الله- (ت 1436هـ) يقول لي: مكتب مدير الجامعة يطلبونك؛ لمقابلة المدير.
قرأت في عيني مدير المعهد – وهو ينقل لي الأمر- الدهشة والحيرة، فماذا يريد مدير الجامعة (وهو برتبة وزير) من مدرّس صغير السنّ قَمِيء نحيل، حديث عهد بالتدريس؟ ولم أكن أحسنَ حالًا منه، ولا أكثر اطمئنانًا، فمن أنا حتى يطلبني مدير الجامعة؟
ذهبتُ من فوري إلى إدارة الجامعة في مبناها القديم بحيّ المربّع، ودخلت عند مدير مكتب مدير الجامعة، الذي استوقفني قليلًا، ثم استأذن لي، فدخلت على المدير الدكتور عبدالله بن عبدالمحسن التركي، وكان على كرسيّه الدوّار، فوقف وصافحني، ثم قعد، واشتغل بضع دقائق بأوراق بين يديه.
شعرتُ أن في عينيه إحساسًا بالمفاجأة من قَماءة هذا الداخل، وكأنه يقول: أهذا هو المُعَيديّ الذي قامت الجامعة من أجله؟
قعدت وفي قلبي هيبة استطعت مغالبتها بقليل من التجلّد، وكنتُ شديد الاضطراب حين أدخل على ذوي المنـزلة والسلطان، ولكني سرعان ما أتغلّب على قلقي، وبخاصة إن شعرتُ بلطف من قعدتُ إليه.
في تلك السنوات كان عبدالله التركي رجلَ الجامعة الأوحد، وكان له من السطوة وقوة الشخصية، وخلالٍ أخرى اشتُهِر بها، كالحزم والصرامة والوضوح والتفاني في العمل، والمعرفة بالمواضع التي تؤكَل منها الكتف في تعامله مع الناس ومع رجال الدولة، كان له منها ما جعله يمسك بأزمّة الجامعة، ويسيِّرها مسيرة جعلتها في مصافّ جامعات أعرق منها، وكان له الفضل في تبوُّئها مكانة عالية.
ولم أكن-إذ دخلت عليه في عرينه- غافلًا عما يُشتَهَر به؛ وهو الذي جعلني أضطرب- وأنا الفتى المتهوّر الأهوج حديث التخرج- ولكنه تبسّم تبسُّمَ من يهدِّئ الرّوع، لا من يريد أن يجرِّئ الداخل.
سألني عن سنة تخرجي وعن عملي، وعن والدي رحمه الله– وكانت بينهما زمالة دراسة- ثم فاجأني قائلاً: «وش هالـمُخابَط اللي بينكم؟».
وعرفتُ حينئذٍ سبب استدعائي، إنها المقالة، وما جرّت من الذيول.
ولم يتيسّر لي في ذهول الموقف أن أرتِّب كلامًا، فأجبت إجابةً لا أدري مقدار ما عرّفَتْه بي، ولكنني في أكثر من سؤال وجواب شرحت وجهة نظري الفطيرة (الطريّة) في تدريس النحو، وسبُل تطويره.
ما الذي يدعو مدير جامعة كبيرة، همومها لا تنتهي، ومشكلاتها لا تنقضي، إلى أن يستدعي شابًّا أطلق كلمات عاطفية نارية، وأثار عاصفة من الجدل، ليستمع إليه؟ أظن أن هذا من خصائص عبدالله التركي، وهذا ما جعله يستمر في مناصب كثيرة، نجح فيها جميعها، وكان له في كلِّ مكان حلّ فيه أثر محمود.
طلب مني أن أكتب له آرائي في تطوير تدريس النحو!
(آرائي)؟ ما أكبر هذه الكلمة، وما أطغى صداها على عقل الشابّ الغرّ!
فعلتُ ما طلب، وقيّدت (آرائي) التي لم تكنْ سوى نتاج سنة واحدة من التدريس، ولا أذكر إلا أني كتبت كلامًا غير علمي، تسيطر عليه العاطفة، ولا تؤيِّده معرفة، ولا تجربة، ولا إتقان.
وكان من آثار هذا اللقاء، وتلك المقترحات الفَطِيرة أن رشّحتني الجامعة، بعد عام، للمشاركة في ندوة (تطوير مناهج اللغة العربية في المعاهد العلمية).
لم يتركني عبدالله التركي – وأنا المدرّس الصغير- دون أن يسمع مني، ثم يُوعِز إلى بعض وكلاء الجامعة، بترشيحي للاشتراك في الندوة.
وكان من عجيب المفارقات، أنْ نشرتُ مقالة في جريدة الجزيرة، نقدت فيها الجامعة -وأنا أستاذ مشارك ورئيس قسم الأدب حينذاك- أي بعد عشرين سنة من المقالة العاصفة، فلم يعبأ من كان وقتئذٍ مديرًا، ولم يكلّف نفسَه سوى أن يهتفَ بعميد الكلية، ليسأله: من يكون فلان؟
الرجال معادن.