د.منال بنت عبدالعزيز العيسى
يبدو لي أن رثاء النفس من أصدق وأصعب أنواع الرثاء بما فيه من مواجهة النفس مباشرة بحروف وصور تشكل خلاصة ما قيل وكتب، وهذا النوع من الرثاء لا يملكه إلا القوي النبيل، المؤمن الموحد، المتقين من حتمية الفناء بعد الحياة، والحياة الأبدية في الدار الآخرة المتناقض مع العبثية واللاوجودية والعدمية الغربية؛ لأنه ينطلق من الإيمان بالله عز وجل وبقدره وبالموت مهما كان مرا وقاسيا..
البدر كتب قصيدة لأخيه سعود بن عبدالمحسن يرثي نفسه رثاء رقيقا، مؤمنا، صادقا، معطرا بالشعور بالتفرد في الإحساس والكلمة والمعنى، يقول:
صوتي تجرح مابقى غير همسي
وعسى حروفي اليوم توفي بغرضها
العجز الجسدي المصاحب للمرض جرح صوت البدر مجازا وحقيقة، ليتمنى أن تفي حروفه بما يريد حكيه بصوت مبحوح مرضا وشعورا لأخيه سعود
كن السنين استكثرت عرسي
سبعين غيري ما حصله بعضها
يعتب على العمر بسنواته القليلة الكريمة مع غيره والبخيلة معه والتي استكثرت فرحه وعرسه
ولابدها ياسعود بتغيب شمسي
ذي سنة رب الخلائق فرضها
يبدأ اليقين بأقدار الله وبحتمية الموت كسنة ربانية مفروضة على البشر جميعا بيقين التأكيد «لابدها»
ولاعلها (ولعلها) حريتي بعد حبسي
ولا علي (ولعلي) ألقى عند ربي عوضها
التمني يعود بصورة شعرية نادرة ومميزة لم أقرأ قبلها مثلها «حريتي بعد حبسي» لمن يعتقد أن الموت حبس ونهاية وفناء وعذاب؟؟ البدر يراه الحرية لروح حبست كثيرا في دنيا الفناء ويتمنى العوض من الله سبحانه وتعالى باستخدام ياء المتكلم بكل مافيها من قرب ورجاء «ربي»
لولاي أحبك ماتذكرت نفسي
ولا انتبهت لعجزها أو مرضها
يأتي سعود الأخ،السند، مرآة البدر ليتذكر به ومعه عجزه ومرضه مما يحمله البدر لسعود من حب كبير.
وما دام أشوفك طاب حزني وأنسي
وما همني حلو الحياة ومضضها
الحزن يطيب والمرض يتراجع والحياة تختفي بأفراحها وأحزانها إذا رأى البدر سعود، أي حب أخوي جمع بينهما وجعل الحياة لا تهم البدر؟
لعل قبل سعود لحدي ورمسي
أخوي من أثرى حياتي ونهضها
التمني بأن يموت قبل سعود، سعود الذي أثرى حياة البدر ونهضها، الوفاء والدعاء بأن يسبق سعود، ما أصعبه من دعاء؟
ويامن ذكرني ما تذكرت منسي
ذكرت من عد النجوم وقضبها
تعود النفس في لحظة بكائية للاعتزاز بذاتها، فأنت ياسعود تذكرت رجل لا ينسى، رجل وصل بشعره وهويته كمن يعد النجوم ويمسكها بيده.
أنا الذي لوتلمس الريح خمسي
كان السحاب أرخى العباة ونفضها
أنا / الذات الفردية بضمير المتكلم وبصورة شعرية تضاهي بيت المتنبي:
أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي
وأسمعت كلماتي من به صمم
البدر لو لمست الريح حواسه الخمس تنتفض السحب وترمي عباءة مطرها احتفاء به، وهو من عد النجوم ومسكها بيده، في حين كان المتنبي يباهي بالأعمى والأصم من البشر وأنه قادر على إيصال شعره لهم يباهي البدر بمسكه للنجوم ونفضه للسحب في صورة سماوية بديعة تقابل الصورة البشرية للمتنبي
هذا الشجن حرثي والأيام غرسي
قصيدتي يبطي الزمن ما نقضها
يلخص البدر قصيده وشعره وإحساسه وذاته الحاضرة بالشحن والحزن، فكل ما كتب هو شجن الروح والأيام كانت غرسه وقصيدته لا يمكن للزمن أن ينقضها بتراكيبها وصورها وشعورها وفرادتها
ونعود للمتنبي صاحب الصور الدنيوية المادية الواقعية:
أنام ملء جفوني عن شواردها
ويسهر الخلق جراها ويختصم
البدر لا لا ينام عن نوادر شعره، بل يقدمه كحرث لغرس الأيام في صورة شجن وليس شوارد لتكتمل قصيدة لا يمكن للزمن أن ينقضها بمثيلات أو متشابهات بينما المتنبي يزهو بسهر البشر فيما يعتقد حول قصائده يتخاصمون والبدر يؤكد «يبطي» يستحيل أن ينقض الزمن بشعرائه ما كتب البدر....
أي ثراء قدمه البدر كنموذج لرثاء النفس في قصيدة واحدة؟ وأي إرث شعري شعبي سعودي يضاهي ويتقدم بصوره ومعانيه ولغته الشعر العربي القديم ؟ وأي كنوز ثقافية شعرية يضيعها الدرس الأكاديمي السعودي بتجاهل الشعر الشعبي السعودي؟؟
إنها كارثة حقيقية نبهت لها منذ زمن ومازالت الجامعات السعودية تنبش في قبور الجاهلية وما بعدها من عصور وتتجاهل الكنز الشعري السعودي بكل معانيه وسياقاته وأدواته وصوره؟؟
قدمت أنموذجا واحدا في قصيدة واحدة لمعنى واحد فكم من المعاني والقصائد والشعراء نحتاج لدراستهم؛ لننفض غبار الماضي الذي قتل بحثا ونتوجه للحاضر،للمستقبل،للشعر السعودي الشعبي الثري..
صوتي أرفعه للجامعات السعودية ووزارة الثقافة وهيئة التراث وكل الجهات المعنية بإعادة النظر في الموروث الشعبي السعودي شعرا ونثرا ووضعه في مكانه المستحق ودراسته -كما يجب- في الجامعات السعودية وتصديره كواجهة إنسانية للعالم..
** **
- أستاذ الفلسفة والنقد بجامعة الملك سعود