د.أمل بنت محمد التميمي
لماذا أنا هنا؟ في عرض الأوبرا السعودية (زرقاء اليمامة) هل هو سؤال عصي على الإجابة؟
يمكن أن يكون هذا السؤال عصيًّا على الإجابة؛ لأن عناصر الأوبرا بعناصرها وتفاصيلها فنٌ جديدٌ علينا في السّعودية ويصعب نقلها كما شاهدتها بوصفها مشاهد بصرية حسية تفوق الخيال، والأصعب من ذلك هو وصف الإحساس الوجداني الذي شعرتُ به وأنا أسمع شعوبًا مختلفةً تتغنى بشعرٍ عربي عن أسطورة امرأة عربية. هل أنا هنا لأشاهد تفاصيل فنيةً تمنيت رؤيتها بدون عناء السفر؟ أم أنا هنا لأرى كيف دخلت السّيرة الشعبية العربية في فن الأوبرا العالمية على أرض سعودية؟! المدهش حقًّا هو كيف أصبحت المرأة العربية موضوع الفن الأوبرالي، فمن المعروف في كتب التاريخ والسير أن قصة زرقاء اليمامة هي قصة امرأة عربية واقعية من أهل اليمامة كانت مضربًا للمثل في حدِّة النظر وجودة البصر، فقد قيل إنها كانت تبصر الأشياء من مسيرة ثلاثة أيام. والجميل في ذلك أن الأساطير الشعبية في فن السيرة العربية قد أصبحت موضوعًا للأوبرا. وأنا هنا في دار الأوبرا السعودية؛ لكي أستمتع بأوبرا (زرقاء اليمامة) التي أصبحت قصتها موضوع فن الأوبرا الإيطالي أو الفن العالمي. وأسمع سلم الغناء يتصاعد ويهبط باللغة العربية، وأمامي شاشات مكتوب عليها الشعر الغنائي باللغة العربية، ويد قائد الأوكسترا ترتفع أمامي وأتأمل هذا الخليط الثقافي الذي يقوده قائد غير عربي وهو يقود فريقًا بشريًّا يغني بصوت عربي.
لقد كنت طوال حياتي أتأمل عصا (المايسترو) بإعجاب، وأعجب من قدرتها على توصيل ما يريده قائد الأوركسترا إلى الفريق، كنت في طفولتي تجذبني العصا وصاحبها، ويعجبني انسجام جسده مع العصا وتفاعل الفرقة الموسيقية معه. ما هي هذه اللغة الساحرة التي تجعل فريقًا عظيمًا يفهم حركات العصا، تظل مشاهدات الماضي قابعة في الذاكرة لا نشعر بها حتى تأتي مواقف حديثة تحرك الماضي الراكد في اللاوعي. من الذي حرّك مشاعري إلى (عصا) تستطيع أن تتكلم مع فريق كبير؟ حضوري (أوبرا) زرقاء اليمامة في السعودية رجّت ذكريات الطفولة ثم فجّرت ذكريات المراهقة المرتبطة بالعصا السحرية والسلم الغنائي الصادر من تلك الحركات.
أنا هنا، استجابة لدعوة القائد الملهم الرئيس التنفيذي لهيئة المسرح والفنون الأدائية في السعودية الأستاذ سلطان البازعي لنشهد تحولات الثقافة السعودية وفق رؤية (2030). وأنا هنا أشاهد العرض التجريبي قبل يوم الافتتاح، يوم الأربعاء 15 شوال 1445هـ24 إبريل 2024م. وقبل يوم الافتتاح بليلة واحدة ولأوّل مرة أتجهز لأخرج في الرياض إلى عرض أوبرالي بعدما كنت لسنوات طويلة غالبًا ما أرتدي كل أربعاء أو خميس فستانًا أنيقًا ومعه شال وألبس كذلك خاتمًا كبيرًا وأجلس أشاهد حفلة لمحمد عبده في لندن أو أشاهد أوبرا على شاشة بيتي وأتخيل أن روحي تسافر وتحلق وترقص في شوارع فينا تارة وسويسرا تارة أخرى وإيطاليا مرات كثيرة.
أما الآن فأنا هنا، أمارس فن الرحلة الترفيهي الثقافي في بلدي، فقد قمت يوم الأربعاء بإخراج فستاني الأزرق متدرج اللون، زرقته كأمواج البحر لكي أحضر حفلًا في الرياض، حفلٌ حقيقيٌّ (أوبرا زرقاء اليمامة). خرجت وأنا في كامل أناقتي، علقت حقيبتي على يدي وكانت تحضن ذراعي، وعندما اقتربت من مبنى مركز الملك فهد الثقافي شعرت بشعور غريب. نزلت عند بوابة كبار الشخصيات، واستقبلتني وجوه جميلةٌ مبتسمة رجالًا ونساءً. ورأيت فريقًا من رجالٍ أصحاب أجسام ضخمة يرتدون بدلًا سوداء يتكلمون العربية يستقبلوننا بلهجة سعودية، وبعد دخولنا صادفنا فريق استقبال كبيرًا يضيفوننا بالقهوة العربية والتمر المحشو بالمكسرات والحلويات والعصائر الطبيعية. وحينما رأيت الدكتور محمد حسن علوان الرئيس التنفيذي لهيئة الأدب والنشر والترجمة في وزارة الثقافة مرتديًا المشلح السعودي ويستقبل الضيوف ويسلم عليهم، أدركت أنني لا أحلم وإنما أنا أحضرُ حفلًا أوبراليًّا حقيقيًّا في السعودية، ثم سرنا في ممر يفصل صالة الاستقبال عن قاعة العرض، ودخلنا قاعة العرض واستقبلنا في منتصف القاعة سعادة الأستاذ سلطان البازعي الرئيس التنفيذي لهيئة المسرح والفنون الأدائية في السعودية بصوته الملكي الجهوري، فالأستاذ سلطان صاحب تهلية وترحيب أشبه برائحة البخور الملكي وفخم بفخامة السعودية، ترى في عينيه بريق السعودية، وتسمع من صوته الأمل، هنأته على النجاح المبهر لحضور نخبوي لفن راقٍ. جلست في قلب المكان، وأمامي مشهد مهيب لستارة الأوبرا، لقد تغير كل شيء في مركز الملك فهد الثقافي، وهنا انتابني الذهول وتداخلت عليّ المشاهد بين الحلم واليقظة وبين أصوات الحضور وأصوات الذكريات.
يا إلهي! تغيير كل شيء! أصبحت أتأمل! هل هذا هو مركز الملك فهد الثقافي الذي أعرفه. كنا نحضر فيه ندوات ومؤ تمرات وعروضًا مسرحية ونتأمل فيه الكثير، والآن أصبح فيه المثير ستارة الأوبرا الضخمة المنقوش عليها السيفان والنخلة (أوبرا عالمية بالسعودية)، استعدت الذكريات، وأصبحت أسمع صوت الماضي القريب صوت صاحبة السمو الملكي الأميرة عادلة وهي أول امرأة سعودية تطأ أقدامها على منصة المسرح -فيما أعلم- متحدثة وجالسة في قلب المنصة، وصعودها على المنصة آنذاك هي رسالة لصعود المرأة السعودية على منصات المنابر الثقافية، وكذلك تداخلت عندي المشاهد الحاضرة أمام عينيّ وفي الماضي، أرى حاليًّا مشهد الشرفات الضخمة الجميلة في مكان جُهّز ليكون أوبرا عالمية، وأرى شرفات الماضي وأنا أدير أمسية شعرية لشاعرات الوطن والدكتورة الشاعرة أشجان الهندي تلقي قصائدها الوطنية من أعلى الشرفة؛ لأنها كانت مخصصة للسيدات فقط، واليوم وبعد سنوات على نفس المكان تصعد المرأة السعودية لتغني أوبرا ضمن فريق أوبرالي عالمي. هذا هو التغير الثقافي الذي أتيت لأشاهده هذه الليلة.
حقًا! إنها ليلة مذهلة بكل تفاصيلها، لا أدري عن ماذا أتحدث! عن ماذا أحكي؟ هل أحكي عن كتابة هذا النص الأوبرالي البديع؟ أم أحكي عن تجهيز المسرح (السينوغرافيا) أو الإضاءة المذهلة، أو الأزياء العريقة من التراث، أو الشخصيات التاريخية في الحكاية أو الشخصيات السعودية المساهمة بالعرض الأوبرالي، أو الحضور الخليط من ثقافات مختلفة وجنسيات متعددة؟! تزاحمت كل هذه التفاصيل مع المشاعر والذكريات. لماذا أنا هنا؟ مرة أخرى، هل لأنني أستمتع بفن كنت أشاهده في أفلام الكرتون عندما كنت مهوسة بمشاهدة (بيتي بوب) الشخصية التي كنت أحسبها أنا من كثرة مشاهدتي لها والغناء معها بالصوت الأوبرالي؟ أم أنني هنا لكي أتابع ما حصل في السعودية من نهضة فنية مثيرة؟
لماذا أنا هنا؟ في الأوبرا السعودية (زرقاء اليمامة) أنا هنا لكي أبارك الرعاية الملكية السعودية والدعم السعودي للفن بهوية عربية خاصة ومذاق يناسب أذواقنا، أنا هنا لأبارك للشاعر السعودي وكل سواعد الوطن لمن ساهم في نهضة الفن السعودي والتراث العربي بصورة تليق به، فالعمل من تأليف الشاعر والكاتب السعودي صالح زمانان، وأداء الفنانين السعوديين خيران الزهراني وسوسن البهيتي وريماز عقبي، مع مجموعة من الأسماء العالمية البارزة؛ منهم مغنية الميزو سوبرانو الشهيرة السيدة سارة كونولي، وأليكساندر ستيفانوفسكي، وأميليا وورزون، وسيرينا فارنوكيا، وباريد كاتالدو، وجورج فون بيرغن، والمخرج الفني للعمل إيفان فوكشيفيتش، والمخرج المسرحي للأوبرا دانييل فينزي باسكا، بينما يتولى بابلو جونزاليز قيادة أوركسترا دريسدن سينفونيكر مع كورال الجوقة الفيلهارمونية التشيكية.
أنا هنا، لكي أشاهد عصا المايسترو أمامي وهو يقود الفرقة بمذاق عربي وعرض العمل الأوبرالي، أنا هنا وأنا أشاهد الأزياء العربية والروح العربية. رأيت كيف استطاع القائد العربي أن يجعل مصممة الأزياء جيوفانا بوزي وفريقها تقوم بتصميم أزياء تعكس روح الأوبرا والجماليات البصرية لعصر ما قبل الإسلام وبروح عربية وهوية سعودية.
أنا هنا، لكي أشارك وطني نجاحًا عالميًّا، وأشاهد مشاهد كلاسيكية عالمية لأسطورة امرأة عربية استطاع فيها القائد السعودي الذي يقود الإدارة الثقافية أن يجذب جمهورًا عالميًّا من خارج الوطن ليرى محتوى الثقافة العربية في فن عالمي على أرض سعودية. ومهما وصفت مشاهد الجمال في هذا العرض لن أستطيع الوفاء بحقه لأنني مازلت في هول الذهول وموقف التأمل، فأنا مازلت قاصرة عن إدراك بعض الجماليات الرمزية في العرض الأوبرالي مثل وجود رمزية (الحوت الأزرق) في مشهد امرأة عربية تعيش في اليمامة، حاولت التعمق في فهم دلالة الجوانب الفنية في إبراز دور الحوت فلم أتوصل بعد إلا إلى قراءة أولية مفادها بأن الحوت أزرق أو له علاقة بـ (الابتلاء والصبر) حينما ابتلع الحوت نبينا يونس -عليه السلام- فأنجاه الله من الموت، أو ربما يكون رمزًا لقوة المرأة العربية. ومع هذا فلست معنية في هذا المقال الترفيهي بتحليل الجوانب الفنية التي أدهشتني ولا بحصر الرموز التي أذهلتني، إنما أنا معنية بهذا المقال لشكر الإدارة الثقافية في السعودية التي حققت أحلامنا لنخرج بكامل أناقتنا لحضور عرض أوبرالي مذهل في السعودية موضوعه المرأة العربية ولسانه اللسان العربي، فشكرًا أولًا لمن قدّم لنا هذا الفن الراقي الفخم. وشكرًا ثانيًا لأن فن الأوبرا الفخم قد بدأ بالسيرة الشعبية في المملكة العربية السعودية. وأتطلع في العرض الأوبرالي القادم أن تكون قصته من التاريخ السعودي الحديث المرتبط بمؤسس هذا الكيان الملك عبد العزيز -رحمه الله- الذي كثيرًا ما انتخى بالمرأة أعني ينتخي بأخته الأميرة (نورة)، لتكون بطلة الأوبرا المرأة السعودية وموضوعه (النخوة) الأخت.
** **
- أستاذة الأدب والنقد بجامعة الملك سعود