د. شاهر النهاري
في حميمية مسلسلات زمان الطيبين، حينما كان التليفزيون يجمع الأسرة على كراسي الدراما، والتراجيديا، التي تنبع من الأصالة، وتحكي عن التغير، الذي يحتاج لوقفات المبدعين والفنانين لشرح وتشريح الحال، وترك علامات ونواقيس على جدار العمر، ظهر لنا المسلسل المصري «ليالي الحلمية»، وهو يحكي عن حي الحلمية، ذلك الذي كان في بدايته حيًا راقيًا للباشوات والبهوات والطبقة الارستقراطية، وكيف جار عليه الطموح الإنساني، وتحول إلى حي شعبي يقيم به البسطاء من عامة الناس مختلطين بالطبقة الوسطى وما تحت الوسطى من الشعب المصري.
والحدوتة من تأليف الكاتب الراحل أسامة أنور عكاشة، وإخراج إسماعيل عبد الحافظ، وقد عرف عن أعمال هذا الثنائي أنهما يعرفان الطريق لقلوب ووعي وشجن المجتمعات، بروعة التناول، ومهما سطرا من حكايات مستغربة، سعيدة أو أنها بألمها تعيسة، ولكنها صور متحركة بزوايا منها تطرح الأمل، في ذكريات قد تكون جميلة، وقد تكون غير ذلك عند من يستمر يقارن، وقد تحتوي القرب من الذات، وهواجس ليت في وادي عسى.
المسلسل تناول فترات مهمة من تاريخ دولة مصر، بداية بعصر الملك فاروق، وما تبعه من ثورة، وحكم عسكر، ومرورا بأحلام وانزلاقات وصدمات، ووصولا إلى مرحلة التسعينيات، في عدة أجزاء يستطيع من لم يعش خلالها أن يتخيل ويفهم الكثير مما حدث وكان يحدث وما يعطي نتاجه إلى اليوم.
وقد تبارز نخبة من الممثلين بأداء أدوارهم، المرسومة المتناسقة، والتي تأتي من الشارع والدكاكين، وبيوت الحارة، فكانت الحلمية هي مسرح مبارزتهم وبروزهم، يحيى الفخراني، وصلاح السعدني، وممدوح عبدالعليم، وإلهام شاهين، وعبلة كامل، وهشام سليم.
ولعلي هنا أن أقف كثيرا عند أغنية التتر، والتي أعتبرها خلاصة المسلسل، وفلسفته، كونها تحتوي نظرة فنية شاملة لرجع معظم أحداث الحلقات، التي تعجز عن تحديد أيها الأفضل.
والشاعر هنا كان المهندس شاعر الدراما المصرية سيد حجاب، الذي صاغ أبياته بلهجة ابن البلد، الذي يعرف رطن بطون من تعلقوا بالأحداث المتسلسلة بكل وقعها.
واللحن للموسيقار وعازف الكمنجة والموزع الموسيقي المبدع ميشيل المصري، في لحن تمتزج فيه موسيقى القصور، بضيق دكاكين الواقع والخرابات.
وقد قدم التتر صاحب الصوت الرخيم المغني محمد الحلو، في عمل قد يكون الأهم في حياته الفنية بوجهة نظر غير ملزمة.
وأتت كلمات التتر كحبات مطر من التساؤلات يترنم بها الكورس ويطرحها، ليجيب عنها بذاته مرات، ويؤكد مقاطع منها المطرب بوصلات طرب تنتزع الحزن من القلوب بهرمونية متناغمة، وبأسئلة وردود تحمل البراءة والحكمة والدموع، منسجمين مع الحكاية وهي تكتب صوتا ولحنا بأجمل صورها:
منين بيجي الشجن؟
والرد يأتي سريعا:
من اختلاف الزمن
ومنين بيجي الهوى؟.. من ائتلاف الهوى
ومنين بيجي السواد؟.. من الطمع والعناد
ومنين بيجي الرضا؟.. من الايمان بالقضا.
ويستمر انهمار سيل الردود من الجوف:
من انكسار الروح في دوح الوطن
يجي احتضار الشوق في سجن البدن
من اختمار الحلم ييجي النهار
يعود غريب الدار لأهل وسكن.
ثم يصرخ المطرب معاتبا وعيه بصوت مجروح:
ليه يا زمان ما سبتناش أبرياء؟
وواخدنا ليه في طريق ما منوش رجوع
أقسى همومنا يفجر السخريا
وأصفى ضحكة تتوه في بحر الدموع.
وأنظر هنا لقمة التعمق في رجع المأساة، بأن يكون أقسى هموم المجتمع ما يفجر السخرية:
ولفين يأخدنا الأنين؟
لليالي ما لهاش عينين
ولفين يأخدنا الحنين؟
لواحة الحيرانين
وهنا زفرة رجاء أخرى، فالصور هنا تحتاج الوعي في لحظة توقف وحساب للربح والخسائر، والتي تغلب بعضها:
ما تسرسبيش يا سنينا من بين ايدينا
ولا تنتهيش ده احنا يا دوب ابتدينا
واللى له أول بكرة هيبان له آخر
وبكرة تفرج مهما ضاقت علينا.
وهنا يظهر طعم الواقع الشعبي، في القدرة على تجرع الصبر، ومواجهة الغيب، بما في الجيب، وانتظار بوادر الفرج:
ولفين يأخدنا الأنين؟
لليالي مالهاش عينين
ولفين يأخدنا الحنين؟
لواحة الحيرانين.
يا له من إيمان، يشابه اليأس من طول معانقة النحس، والرغبة الحالمة بتحسن الظروف، وتهيئة الذات لسعادة، أو لما قد يكون أصعب، وأغرب، وأبعد:
لابد من بكرا إللي طال أنتظاره
ده مهما طال الليل بيطلع نهاره
ومهما طال درب الهموم والمساخر
لابد ما يعود المسافر لداره.
وتلك خلاصة ما كان المسلسل يحاول شرحه بمرحلة طالت بما يقرب من القرن، وكانت التغيرات فيها متذبذبة متراكبة قوية، وكان تأثيرها ليس فقط في الأمور المعيشية، ولكن بالفكر المتنامي، ورغبة الأكثرية بالوصول مهما بلغت مرارته، ومهما فشل الملايين عن التفرد، ولكن الأغلبية يظلون صابرين يعضون على بعض صور وتخيلات الخير بالنواجذ، ولكنهم يستمرون يعانون، وهم يرون شبابهم وهو عماد الوطن في معاناة تتجدد، وتعتصرها عدة أزمات وحروب، يمرون فيها بما سمي بالعدوان الثلاثي، والنكسة، وغيرها، وكل ذلك محسوب في الأنفاس، وله تأثيرات ليست فقط على الوجوه، ولكن لما هو أبعد وأعمق وأشد من ذلك.
مصر العروبة حينها، وحتى يومنا تمثل كيان عظيم، وهرم عربي معجز بكينونته، يظل يتفاعل ويتناسب مع جميع ما كان يحدث بينها وبين الدول العربية، وبين زعاماتها، وليالي الحلمية مجرد حكاية شريحة تستطيع نقل كل ذلك بشكل منهجي مهما كان يحكي عن إقليمية ضيقة، فلا أحد يستطيع تهميش أدوار ثقافة مصر في صنع حكايات والصور للعرب تشمل كل المشاعر الحميمة وانتصاراتها وهزائمها ومفارقاتها، التي حاولت المسلسلة نقلها بوجد وكثير من الحزن.