عبدالله العولقي
قد يبدو الموضوع غريباً بعض الشيء ، ولكن ظاهرة اقتران العبقرية بالجنون ظاهرة معروفة في تراجم وسير بعض العباقرة ، فكثيراً ما نسمع أن بين الجنون والعبقرية شعرة، وهناك دراسات نفسية كثيرة حول هذا الموضوع ولكنها جميعاً لا تخرج بنتائج حاسمة وواضحة حول هذه الظاهرة الملحوظة، فكثير من النابغين كانوا يتصرفون بتصرفات غريبة الأطوار وعجيبة المواقف، فالفيلسوف بيرن يقول: نحن أصحاب الصنعة كلنا مجانين! أما الأديب دريدن فيقول: المفكرون العظام يتراقصون على حبل مشدود بين الجنون والعقل.
لا نريد هنا أن نخوض في أمر التعريفات والتحديدات بقدر ما نريد أن نفهم جوهر هذه الظاهرة، فالعبقرية حالة استثنائية تتميز بالنبوغ والإبداع في عملها وتجلب الدهشة والمتعة في نفس متلقيها، بينما الجنون حالة مرضية قد يفقد فيها المريض كامل عقله وهذا لا فائدة منه على الإطلاق، وقد يفقده جزئياً فيكون عاقلاً تارة وفاقداً لعقله تارة أخرى، والعباقرة المعنيون في هذا المقال هم من النوابغ الذين أبدعوا في مجال ما وأصبحوا مشهورين فيه وكانت لديهم تصرفات غريبة لا يفعلها العقلاء العاديون، فالعبقرية هبة ربانية عظيمة يستفيد منها صاحبها إذا وجهها في وجهتها المثلى وقد تجلب المرض والتعب على صاحبها إذا استسلم لأهوائه وأفكاره، فالعباقرة يتميزون بنشاط دماغي غير عادي فهم يفكرون بطريقة غير عادية وقد يؤدي هذا النشاط الواسع إلى اختلال في بعض خلايا المخ مما يجعله يتصرف بشكل غير عادي أيضاً، وكما يقول الأستاذ رجاء النقاش: لعلنا بالفهم الصحيح والمعرفة الجيدة أن نستطيع أن نقف في وجه الجنون وما يترتب عليه من سلبيات، ونستطيع كذلك أن نستفيد من العبقرية ونتعلم منها ونستنير بما تقدمه من أفكار وأضواء جديدة على مشاكل الإنسان والحياة.
وعلى العموم فالمبدعون على نوعين:
1-الموهبة والفطرة
2-الكفاح والاكتساب
فأما النوع الأول فهو فطري النزعة، يعتمد في تكوينه على خصائص معينة، قد تكون موروثة وقد تكون مهيأة بالظروف المحيطة بالمبدع والتي أعانته على صقل موهبته ونبوغ شأنه فيها، وهذا النوع يكثر عند الشعراء والروائيين والفلاسفة والرسامين بشكل عام، كما أن كثيراً من أصحاب هذا النوع يعاني من أزمات نفسية ومشاكل عقلية، وهم معروفون بالفوضوية والشتات الذهني والنسيان، وسنجد في هذا الباب العديد من حكاياتهم الغريبة وقصصهم العجيبة، فعلى سبيل المثال نجد أن شاعراً كبيراً كالمتنبي كان يعاني من عقدة مركب النقص التي تحدث عنها عالم النفس ادلر، كما أن العديد من النقاد الذين درسوا المتنبي من الوجهة النفسية تحدثوا عن مرض الاكتئاب والقلق النفسي الذي لم يكد يفارق المتنبي طيلة حياته، كما أن الشاعر العباسي أبو نواس كان له من الإشكالات النفسية ما دفع بالأستاذ العقاد أن يؤلف عنه كتاباً كاملاً يتحدث فيه عن مشكلة أبي نواس النفسية، وقد درسها دراسة نفسية علمية عميقة على نمط فرويد ويونج وأدلر، إلى غير ذلك من النماذج.
وأما النوع الثاني فهو إبداع كفاح واكتساب، أصحابه هم رجال جد وعمل وانتظام، لا يرى نتاجهم النور إلا بعد جهد لحوح وكفاح مستمر ونشاط دؤوب وتفان وصبر، فهم أهل عناء مع الإبداع، وهذا النوع أقل عرضة للأمراض والمشاكل النفسية، وهم يتسمون بالانضباط في العمل والتفاني فيه، واحترام الوقت والمواعيد ، ونجد أن هذه الفئة تكثر عند المخترعين والعلماء والمفكرين والنقاد، ومن أمثلة هذا النوع المكافح المخترع العظيم توماس أديسون والفيزيائي العالمي أحمد زويل ، وعالم الأحياء الشهير ليفنهوك ، وأستاذ النقد سانت بوف.
وقد قرأت في أحد الكتب التي تهتم بهذه الظاهرة أن الروائي الفرنسي الشهير بلزاك كان يسير دائماً في شوارع باريس، فينشغل عن كل مفاتن هذه المدينة الرائعة بجمع أرقام البيوت، فإذا شكل له المجموع أحد مضاعفات الرقم ثلاثة اعتبره فألاً حسناً وإلا فإنه يعود إلى بيته ليبدأ مشواره عبر شارع جديد وأرقام جديدة، ولكم أن تتخيلوا أن أديباً كبيراً كبلزاك يهيم في الشوارع يطرح ويجمع ويضرب ويقسم قبل أن يصل إلى غايته! وقد كان بلزاك لا يكتب إلا ليلاً، فكان يغلق النوافذ عليه بدءاً من الساعة العاشرة مساءً ثم يحضر طنجرة كاملة من القهوة ويبتدئ بالكتابة حتى الصباح دون توقف، وهكذا كان يشتغل خمس عشرة ساعة يومياً بعد أن يبتلع عشرات الفناجين من القهوة، ولذلك كان يقول: إن حياتي تتلخص في خمس عشرة ساعة أضنيها في العمل والعذاب وهموم المؤلف وصقل العبارات وتصحيحها.
ولم يكن الفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو بأحسن حال من بلزاك، فلقد كان مصاباً بمرض الوسواس القسري الذي من أشهر أعراضه الشك في كل شيء، فلم يكن روسو يأكل إلا من الطعام الذي يطبخه بنفسه خشية أن يدس له أحدهم السم، وقد تمادى به الوهم إلى الدرجة التي كان يظن بأنه وحده المهدد بزمجر ة الرعد ووهج البرد، لقد كان روسو مصاباً بعقدة الاضطهاد، وكان يعتقد أن هناك مؤامرات تحاك ضده، فكان يغير سكنه بين الحين والآخر، ويشك حتى في أقرب الأقربين له، وقد انتهت صداقات حميمة بينه وبين أعز أصدقائه بسبب بعض الأوهام المترسخة في ذهنه.
أما تشارلز ديكنز وهو أشهر كتاب الرواية في زمنه بلا نزاع، فقد كان يخرج من منزله ليلاً ويسير بلا هدى لمسافات تصل إلى خمسة أميال في الليلة الواحدة، والأغرب من هذا أنه كان يدخل على زملائه من نوافذهم بحجة مفاجأتهم! وأما الأستاذ فولتير فموضع الغرابة في سيرته أنه كان لا يكتب إلا إذا وضع اثني عشر قلماً رصاصاً أمامه، وبعد أن ينتهي من الكتابة يكسر هذه الأقلام ثم يلفها بالورق ويضعها تحت وسادته حين ينام! وأما امبراطور فرنسا نابليون بونابرت الشهير فكان لا يشرع في رسم معاركه الحربية إلا وهو يمص أقراص السوس ويضع يده اليسرى على قلبه، أما خطه فكان رديئاً جداً لدرجة أن رسائله كثيراً ما ظنت رسوماً عسكرية!
وإذا تحدثنا عن فيلسوف ألمانيا شوبنهاور فقد كان يحادث نفسه في الطريق بصوت جهوري، وكثيراً ما كان يسجن نفسه في غرفته عدة أشهر، أما مواطنه الفيلسوف نيتشه فقد قضى آخر عشر سنين من عمره في مستشفى المجانين كمجنون رسمي، وأما الروائي والقاص الفرنسي الشهير الكسندر دوماس فقد كان كثيراً ما ينسى مواعيد طعامه لانهماكه في الكتابة، وكانت له طريقة عجيبة في الكتابة، فقد كان يكتب رواياته على ورق أزرق بأقلام خاصة، ويكتب قصائده على ورق أصفر بأقلام خاصة، ويكتب مقالاته الصحفية على الورق الوردي، وكان يكتب على ركبته ولم يستعمل المنضدة قط! وأما الكاتب والروائي الروسي الشهير تولستوي فقد كان فاشلاً في دراسته لدرجة أن مدرسيه قد عجزوا في إدخال أي علم في جمجمته ثم نبغ وأصبح مبدعاً عالمياً بعد ثلاثين عاماً!
وإذا انتقل بنا الحديث إلى الفيلسوف الإنجليزي هربرت سبنسر فقد كان يقضي معظم وقته في الأماني والأخيلة (أحلام اليقظة) وكان يحادث نفسه في الطريق بصوت جهوري! وأغلبية هؤلاء المبدعين العباقرة كانوا مصابين بمرض نفسي يسمى (انفصام الشخصية)، وهناك مجموعة من هؤلاء العباقرة أدخلوا مستشفى المجانين ظلماً وعدواناً، فالدكتور العبقري عبدالسلام المصري أرسل كتاباً في القرن الماضي إلى رئيس الحكومة المصرية مصطفى النحاس وآخر للنقراشي يطلب من الدولة أن تستفيد من قدراته وعلمه، وأن تصرف الحكومة على أبحاثه ودراساته فأدخلوه مستشفى المجانين لمدة عشر سنوات، وقد نشر في مجلة المصور مذكراته!! وفي مذكراته نوه بزملائه في مستشفى المجانين كانوا شعراء مبدعين ورسامين عباقرة وأدباء كبارا وفلاسفة عظماء!!
وفي التراث العربي القديم هناك مجموعة من الحكايات التي تدل على هذه الظاهرة البشرية فحجي بن موسى الشافعي (توفي عام 782 هـ) كان آية في كثرة الاطلاع وصحة النقل، وكان غواصاً نقالاً عارفاً بحل المشكلات، صحيح الفهم سريع الإدراك، أما عجائبه فقد رواها ابن حجر العسقلاني عندما قال عنه: كان ساذجاً من أحوال الدنيا، لا يعرف صحة عشرة من عشرين ، ولا يحسن براية قلم ولا تكوير عمامة!!!، وأيضاً عبد الواحد بن علي بن برهان أبو القاسم النحوي ( توفي عام 456 هـ) كان عظيم القدر في علم النحو ومرجعاً كبيراً فيه، ومظهر الغرابة فيها ما رواه ابن كثير عنه: كان شرس الأخلاق جداً، لم يلبس سراويل قط، ولا غطى رأسه قط! وأما الفقيه أبو عبد الله محمد بن عبدالله الجزيري الظاهري فقد ارتكب حماقات من جنون الفكر والخيال حتى قتل، وخيل للعامة أنه يتصور في صورة قط أو كلب قال ابن حجر: وكانت العامة ترجم الكلاب والسنانير بسبب ذلك،
يقول الشيخ أبو عبدالرحمن بن عقيل الظاهري حول هذه الظاهرة: ونحن نعتبر أئمة الذوق الصوفي من عباقرة المجانين كابن عربي وابن سبعين وابن الفارض والتلمساني وأحمد البدوي، وكذلك أصحاب الفخر المسرف ولا سيما غلو أبي الطيب المتنبي وابن هانئ الأندلسي ، وأيضاً أولئك الذين راضوا سلوكهم بقسوة لم يفرضها عليهم دين، وإنما هي وسوسات الفكر وجنون الخيال كالمعري، وإذا كنا نجد تقارباً بين الجنون والعبقرية في سلوك بعض الأفراد فإننا نجد هذا التقارب في المدلول اللغوي ، كما يقول الشيخ أيضاً: وللأمانة العلمية لا ننسى أن نختم هذا الاستعراض بملاحظات هامة هي:
1-أن هناك عباقرة لسوا مجانين – لا سيما من العرب والمسلمين – يفوقون عدد العباقرة المجانين أضعافاً مضاعفة.
2-أكثر العباقرة المجانين كانوا عباقرة قبل أن يكونوا مجانين.
3-اختفاء الموهبة لمرض عقلي أكثر من ظهور الموهبة حالة المرض.
4-أعمال العباقرة حالة جنونهم حظيت بعطف شديد فخلدت لغرابتها.
وأخيراً نريد أن نقول: إن ظاهرة الجنون تكون بشكل متفاوت بين العباقرة والمبدعين، فهناك مرض كامل يصيب العبقري ويسيطر فيه على حياته وتصرفاته وهذا النوع لدى جون ناش وجان جاك روسو ونيتشه وفان جوخ، والنوع الثاني يأتي على شكل شطحات تعتري حياة هذا العبقري كما تعتري حياة الناس العاديين وهذا النوع لدى أغلب العباقرة والمبدعين من أمثال آينشتاين وتشارليز ديكنز وفولتير ونيوتن وإدغار آلان بو و بيتهوفن.