أ.د. محمد خير محمود البقاعي
كانت مدة الإجازة شهراً قضيته في حمص بين أهلي وأصدقائي ومرّ مرّ السحاب نعمت فيه برؤية الوالد والوالدة وعمتي وإخوتي وأخواتي وأقربائي، وسعدت بقضاء بعض الوقت في مكتبتي، وراجعت بعض ما كنت عقدت العزم على إخراجه من مقالات وكتب، وأنعش روحي التردد إلى ملتقى الجندول ولقاء الأحبة فيه وفي جلسات الأربعاء المسائية في مقهى الروضة وسط حمص، فضلاً عن ليالي الصيف الباردة في مقصف ديك الجن على العاصي الذي يترقرق الماء في مجراه ويهب النسيم البارد. وديك الجن اسم طائر ليلي متعدد الألوان يخرج ليلاً على ضفاف العاصي لقب به شاعر حمص العباسي عبد السلام بن رغبان الحمصي (161-236هـ/777-850م). ونشر ديوانه غير مرة أفضلها جمع وتحقيق ودراسة الأستاذ الشاعر مظهر الحجي، ونشره اتحاد الكتاب العرب، دمشق 2004م.
وكانت تسمية الشاعر باسم طائر ليلي جميل لأنه كان يعاقر الخمر على ضفة العاصي في حقول القصب على ضفتي العاصي بعد مأساة قتله زوجته ظلماً وعدواناً في قصة مشهورة. والأستاذ الشاعر المجيد مظهر الحجي من جماعة الجندول وكنا نجتمع مساء كل أربعاء في أحد المقاهي الشعبية (مقهى جورة الشياح)؛ وهو حي في وسط حمص يمتد من باب السوق عند الساعة القديمة إلى مسجد خالد بن الوليد وسمي بذلك نسبة إلى الشياحين (جامعو الشيح)؛ وكان الحي مكاناً للمكالس، حيث يحرق فيها الحجر ويحول إلى كلس وكان الوقود هو نبات الشيح البري. والمقهى فلكلوري كنا نجلس على دكة في صدره مرتفعة يبدو أنها كانت مكاناً يجلس فيه الحكواتي يقرأ على الحضور القصص الشعبية الطريفة (التغريبة الهلالية وسيرة سيف بن ذي يزن وسيرة عنترة وعلي الزيبق).
كنا نتجاذب أطراف الحديث على وقع كركرة المياه في الأراجيل التي يستمتع بها المدمنون عليها. وينتهي اللقاء بعشاء في مطعم ديك الجن أو في غيره من مطاعم المدينة.
مر الشهر سريعاً وكان عليّ شد الرحال مرة أخرى إلى فرنسا. حملت معي بعض ما رأيت أنني سأحتاجه في مرحلة الدكتوراه.
وصلت إلى باريس في يوم ماطر من أيام النصف الأول من سبتمبر عام 1986م، وقضيت الليلة في فندق قريب من المطار ولم أستيقظ إلا متأخراً وبعد فطور متواضع حملت أمتعتي وركبت قطار الأنفاق (المترو) إلى محطة القطار وانتظرت أول قطار سريع إلى ليون. كان أول شيء فعلته بعد وصولي البحث عن سكن مؤقت بانتظار الحصول على غرفة في السكن الجامعي ويسر الله لي صديقاً فرنسياً كان يستأجر منزلاً قريباً من موقع السكن الجامعي ويتردد على مطعم الجامعة يشتري بطاقات المطعم من الطلاب فسألني عن بطاقة للبيع فقدمت له بطاقة ولم أرض أخذ ثمنها وجلسنا معاً على طاولة الطعام مساءً وأنا أضع أمتعتي في ركن من المطعم أراه وفي ذهني التوجه لقضاء الليلة في فندق قريب أعرفه. وعرف مني ذلك في سياق الحديث فقال: أنا أسكن في منزل غير بعيد عن السكن الجامعي وعن المطعم حيث كنا وعرض عليّ الإقامة معه حتى يتيسر السكن فتوجست خيفةً ولكن حديثه المطمئن وتصرفاته الرزينة بثت في نفسي شعوراً بالأمان فحملت أمتعتي في سيارته واتجهنا إلى حيث يقيم.
لم يكن المكان يبعد أكثر من عشر دقائق. كان مبنى قديماً والبيت الذي يسكن فيه ملحق في الدور الأخير الرابع فيه مطبخ وحمام وغرفتان وغرفة جلوس. فأراني الغرفة وفيها سرير وفراش وخزانة ملابس ثم أعطاني أغطية نظيفة. قضيت الليلة وفي الصباح خرجنا إلى مقهى قريب فشربنا القهوة وأكلنا فطيرة كبيرة (كرواصان).
أعطاني نسخة من مفتاح البيت وقال بإمكانك البقاء حتى تجد السكن المناسب ومضى إلى عمله غير بعيد. في فرع من مديرية آثار ما قبل التاريخ. عدت إلى البيت، وعلقت ملابسي في الخزانة ثم غادرت إلى الجامعة والتقيت بالزملاء والزميلات وتجاذبنا أطراف الحديث ثم عرجت على مكاتب الأساتذة فسلمت على الموجودين منهم، وكان من محاسن المصادفات أن يكون أستاذاي رومان ولوقا موجودين فذهبت إلى المكتب الذي يجمعهما وسلمت فاستقبلاني بودٍّ وجرى الحديث عن موضوع الدكتوراه وضرورة الإسراع في وضع الخطة وحضور دروس بعض الأساتذة الذين ينشطون في مجال الاختيار. فوعدتهم بإنجاز الأمر سريعاً. وخطر ببالي أن أسأل صاحب الملحق حيث تركت أمتعتي عن إمكانية الاستمرار في السكن معه على أن نقتسم الأجرة ومستلزمات الملحق من ماء وكهرباء. عدت إلى البيت بعد الظهر وانتظرت حتى جاء فيليب غانيير وهو اسم هذا الصديق الذي رحب بالفكرة وقد وجد مؤنساً يبدو أنه كان بحاجة إليه بعد أن اكتشفت حبه للقراءة وتدينه الجميل ورغبته في الاطلاع على الثقافات الأخرى. كان بالأصل من مدينة بوردو Bordeaux الواقعة جنوب غرب فرنسا عرفها العرب باسم «برذال أو بُرْذَالُ أو بردال أو برذيل» على نهر غاوون في خليج غوسكوني. كان مثقفاً قارئاً واعياً ذا لغة بديعة وبيان آسر، وكان متديناً يرتاد أنشطة المؤسسات الثقافية والدينية، ودخل منذ أن شاركته السكن في مرحلة الاهتمام بالثقافة العربية الإسلامية عبر ما كنت أدله عليه من ترجمات يقرؤها بشغف ويستفسر مني عما يشكل عليه وعلى وجه الخصوص في ترجمة العلامة محمد حميد الحيدر آبادي 1326-1423هـ/ 1819-2022م للقرآن الكريم إلى اللغة الفرنسية، وهي من أحسن الترجمات وأدقها كان حوارنا مثرياً ومدعماً للغتي الفرنسية البعيدة عن لغة الشارع والحياة اليومية.
كانت الخطوة علامة فارقة في استعدادي لمرحلة الدكتوراه في ظروف أكثر مناسبة مما كنت عليه في السنوات الماضية راحة وهدوء بال. وجال في خاطري بعد مدة وجيزة أن يكون موضوعي في مجال «التناصية» intertextualité مستخدماً ما قاله منظّروها انطلاقاً من «باختين» في الحوارية إلى جوليا كريستيفا ورولان بارت وجيرار جينيت وكتبهم التي أصّلوا فيها لمصطلح «النص» وما تفرع عنه في كتاباتهم مستخدماً ما أرساه أستاذي أندريه رومان في تفصيل ما سماه مشجر التسمية والاتصال في العربية. وكانت الفكرة أن ينصب عملي على جانب الاتصال بعد أن عمل مع طلبة قبلي في مجال التسمية.
وبدأت الفكرة تترسخ في الذهن بعد إشارات إلى قضية السرقات في النقد العربي وبدا لي أن ما يزخر به النقد العربي القديم في هذا المجال يصلح موضوعاً لرسالة دكتوراه مع الاستعانة بكتابات من ذكرتهم والتصنيف المنهجي لدى أستاذي. وبعد أخذ ورد واستشارة عدد من الأساتذة وجمع الملاحظات استقر الرأي على العنوان وكان «المصطلح النقدي العربي في مجال السرقات وعلاقته بدراسات التناصية» متخذاً من كتاب «الموازنة بين الطائيين» لأبي القاسم الحسن بن بشر الآمدي (ت 370 هـ) مدونة. وبدأت بعد موافقة الأستاذ المشرف في كتابة الخطة التي أنجزتها في مدة وجيزة لوضوح الفكرة. وعرضتها على صديقي الفرنسي أولاً وصديقي السنغالي ثانياً فصححا بعض الصياغات المتأثرة بالبناء العربي، ونالت بعد العرض موافقة أستاذي مع بعض التعديلات. وطلب عرضها على البروفسور لوغورن الذي أجرى بعض التعديلات أيضاً فأخذت في الحسبان كل ذلك وأعطيتها موقعة من الأساتذة للسكرتيرة التي تتولى الموافقات الإدارية وإعطاء إشعار التسجيل تم الأمر بسلاسة ويسر وحصلت على إشعار التسجيل ودفع الرسوم البسيطة؛ فالتعليم في كل مراحله مجاني للمواطن والأجنبي.
هدأت النفس، وتلاشى القلق، وقضيت ما تبقى من عام 1986م في قراءة ما يقع تحت يديّ من الكتب الفرنسية في شتى المجالات وكانت أجمل الأوقات تلك التي أقضيها في مكتبة الجامعة وفي مركز ضخم لبيع الكتب
يسمى FNAC لبيع الكتب والمستلزمات الثقافية، كنت شأني شأن عدد من الرواد نفترس الأرضية المكسوة سجاداً ( موكيت) لتقليب صفحات الكتب محط الاهتمام والاطلاع على فهرس محتوياتها في نسخ توضع على الرف لمثل ذلك. كان الموقع في وسط مدينة ليون في شارع الجمهورية، وما إن تخرج من ال FNAC حتى تزكم أنفك رائحة الطعام المنبعثة من مطعم مكدونالد فتضعف أمامها فتلتهم وجبة مزدوجة وكأساً من مشروب الكولا يمكن أن تعيد تعبئتها مجاناً. كانت بقية العام وعام 1987م أجمل أيام بناء المخزون اللغوي والثقافي. كنت أتردد على دروس الأساتذة في الجامعة مستفيداً من دروسهم المتجددة التي تشدك وتفتح أمامك مسالك القراءة والفهم، وكان التلفاز والراديو رفيقي الساعات التي أقضيها في البيت متابعاً نشرات الأخبار والبرامج الثقافية التي كان لها حضور وصدى في الوسط الثقافي الفرنسي، وفتح ذلك لي الطريق لارتياد دور السينما لرؤية ما يشغل الوسط الثقافي من أفلام على مستوى عالٍ من الطرح والتمثيل. كان أستاذي بعد التسجيل واستقراري النفسي والمادي راضياً عما أنشط فيه تنوعاً واستفادة لغوياً وثقافياً وصار يستمع باهتمام كبير لما أقوله ويحرص على جلساتنا التي تمتد ساعات لا يقطعها إلا وفود طلاب أو أساتذة أو تأزف ساعة درسه.
عدت في هذه الأثناء إلى كتاب «لذة النص» لرولان بارت قراءة أخرى. وأولى خطوات محاولة الترجمة دون أن أفصح عن نواياي، وبدأ نص المتعة يتحول بين يدي إلى تجربة مشوقة أستشير في تراكيبها الفرنسية ومقابلاتها العربية، واكتشفت أن بارت مارس في هذا الكتاب تجربة مزدوجة؛ التنظير والتطبيق من خلال نصٍّ واحدٍ؛ فهو يقدم مفهوماً لمصطلح النص ويقسمه إلى ضربين نص لذة ونص متعة ويضرب أمثلة من الإبداع الفرنسي. ويقدم في الكتاب نصاً تنطبق عليه سمات نص المتعة الذي يعده من فضاءات الكتابة الإبداعية. كان البروفسور أنور لوقا أكثر من كان يقترب من روع النص في اقتراحاته البارعة المنبثقة من تجربته الفذة في الترجمة وثقافته المتجذرة في البناء بالفرنسية والعربية. ونبهني إلى أمر جعل ترجمتي التي خرجت بعد سنوات في طليعة الترجمات التي قدمها مترجمون آخرون. لقد وجّهني إلى توثيق الاقتباسات التي أوردها بارت في الكتاب بلا توثيق فلقيت الفكرة لدي قبولاً دعمه عملي السابق في تحقيق النصوص التراثية ونبهني إلى أن الترجمة الحقيقية إنما هي في جوهرها بحث علمي بعيد عن الآلية واستبدال حروف لغة بحروف لغة أخرى.
كان صيف عام 1987م حافلاً بالأنشطة الرياضية والثقافية وبعض الأسفار إلى مناطق ريفية جميلة ناهيك عن القراءة وحضور بعض المناسبات الفلكلورية في ريف مدينة ليون. كان من أجمل التجارب التي مررت بها باقتراح من صديق فرنسي اسمه باتريس كلافييه، ينحدر من الريف الليوني كان يدرس في الجامعة عرفته من تردده إلى سكننا وكان في غاية اللطف والثقافة استضافني مع فيليب مرات عديدة في منزل أسرته الريفي الجميل. اقترح علي أن أعمل إبان الإجازة في قطـاف العنب vendanges في منطقة قريبة من بيته. فاستحسنت الفكرة، وفي اليوم المحدد أوصلني إلى مكان العمل وأوصى بي صاحب المزرعة الذي خصني بغرفة صغيرة فيها سرير وحمام. وفي فجر اليوم الثاني لوصولي أيقظني في ساعة مبكرة وأعطاني سلة ومشرطاً وصداراً من قماش يحمي ثيابي وتوجهت مع جماعة تزيد على عشرين شخصاً من الجنسين إلى كروم العنب القريبة، وطلب مني صاحب العمل مراقبة الآخرين عن طريقة القطاف ولم يطل الأمر حتى بدأت بالقطاف كالجميع، وفي نهاية وردية الصباح كان صاحب العمل مسروراً من أدائي وتوجهنا إلى صالة كبيرة لتناول طعام الغداء، كان يعلم وقد أخبره باتريس أنني لا آكل لحم الخنزير ومشتقاته فكان حريصاً على توفير وجبات خاصة لي ولآخرين من أبناء المهاجرين من الجنسين. وتوالت الأيام، وكان الموسم وافراً أفرح أصحابه ونشر جواً من البهجة بين العاملين وفي اليوم الأخير وبعد انتهاء العمل أقام صاحب المزرعة وليمة ولقاءً مسائياً وهاتفنا باتريس ليأتي لاصطحابي في صباح اليوم التالي.
كانت آثار العمل بادية في جروح اليد واكتساب مزيدٍ من السمرة من أشعة الشمس. قضيت سحابة اليوم في منزل أسرة باتريس وفي المساء توجه بي إلى ليون وفي الجسد بعض الإنهاك وفي الجيب مبلغ كان أجرة أيام العمل.
كان فيليب فرحاً بتجربتي وكأنه من عاشها وسألني عن التفاصيل التي كان يطرب لسماعها.
قاربت الإجازة على الانتهاء، وكان عليّ تعويض ما فاتني في جمع مادة الدراسة وتدوين الملاحظات. كان الأمر يحتاج بعض الراحة بعد التجربة المثيرة. لم يطل الأمر واستعدت نشاطي الذهني والجسدي، وعادت أجواء الثقافة والبحث بعد تجربة إنسانية مثرية. ما الذي حدث بعد ذلك مما سيكون له تأثير في إبطاء العملية الدراسية؟ هذا ما ستبوح به الشذرة القادمة. ولنا بعون الله لقاء.