أحمد بن عبدالرحمن السبيهين
عنوان المقال اسم لكتاب ألّفه الأستاذ «محمود عبدالشكور»، وهو سيرة ثقافية واجتماعية لسنوات السبعينيات في مصر.
لقد نجح هذا الكتاب في الابتعاد عن التاريخ الأكاديمي الجاف من جهة، كما أنه ابتعد من جهة أُخرى عن «النوستالجيا»؛ والنوستالجيا مصطلح يُستخدم للتعبير عن الحنين إلى الماضي، أو العيش في الماضي، لكن الكتاب يربط بذكاء بين الخاص والعام، ويحكي لنا قصّة جيل كامل وعصر مثير مليء بالحيويّة والإبداع.
وبصفة عامة، فإن عقد السبعينيات وما قبله من القرن العشرين، ينبض جيله بذكرياته الزاهية بين صفحات الكُتب في المكتبات العامّة، ويحفر في الصخر للحصول على المعلومات والثقافة من مصادرها بصبر «أيّوب»، قبل انفجار المعلومات والشبكة العنكبوتية والشيخ «جوجل» وإخوته من مُحرّكات البحث.
كان صبية ذلك الزمان ومُراهقيه يستمتعون بروعة الصداقة، التي تتجلّى في صعوبة البحث واكتشاف الأصدقاء الجُدد عبر المراسلة البريدية المكتوبة، مقارنة بجيل اليوم الذين بإمكانهم، بنقرة واحدة على أجهزة هواتفهم الذكية، اكتشاف عالم الأصدقاء المفترَضين حول العالم في ثوانٍ معدودة.
هذا الجيل الذي تفاجأ بالتكنلوجيا تُحاصره، فألقى بنفسه في معمعتها كفارس شجاع أو بحّار مغامر يُلقي بنفسه إلى المجهول، مع الاحتفاظ بكنوزه من الطوابع والأظرف وصناديق البريد في ركن قصيّ من ذاكرته؛ يستدعيها بابتسامة وحنين في لحظات الصفاء.
إن ما سبق لهو غيض من فيض لظروف حياة جيل متصالح مع نفسه، ذاكرته البصرية والسمعية عبارة عن متحف حافل بكلّ طارف وتليد.
نشأ هذ الجيل في زمن تحوّلي بين الماضي والمستقبل، مما منحهم القُدرة على التكيّف مع تناقضاتهما بسلاسة، فهُم ليسوا تقليديين تماماً ولا مُتحرّرين بالكامل، فهُم يحترمون الخطوط الحمراء، وقد يتخطّونها في النادر، ولكنهم يعودون دائماً بالسلامة إلى جذورهم!
افتتح المؤلّف الكتاب الذي نحن بصدده، باقتباس ثلاث عيارات جميلة، تعكس منهج كلّ كاتب يكتب سيرة حياته وحياة جيله، فيذكر قول «إبراهيم أصلان»:
«بأننا لا نكتب عن حياتنا، ولكننا نكتب بها»؛ بمعنى أن كلّ ما اكتسبناه في حياتنا يظهر في لحظة الكتابة، وبالتالي لا نكتب بشكل منفصل عن تلك الحياة.
ثم أن المؤلّف اختار أشعاراً «لصلاح عبدالصبور»، تقول:
«صباي البعيد
أحِنّ إليه.. لألعابه
لأوقاته الحلوة السامرة
حنيني غريب»..
فمن المستحيل عند الكتابة عن الطفولة أن يعود الكاتب طفلاً، ولكن يمكن أن يستدعي الطفل بوعي الكاتب الآن.. أو بمنطق التأثير الذي يتأملّه العقل؛ كما قال «جابريل جارسيا ماركيز»:
«الحياة ليست ما يعيشه أحدنا، وإنما هي ما يتذكّره، وكيف يتذكّره ليرويه».
يتذكّر المؤلّف نصائح جميلة عن والده، فيقول:» كان أبي يحترم الكتابة، ولكنه يرى
أنها مسئوليّة خطيرة، ويقول: «أكتب كأن العالَم كلّه سيقرأ لك، واقرأ كأنّك الشخص الذي كُتب له الكتاب».. تعلّمتٌ ألا أخاف من الكُتب مهما تضمّنت من أفكار، الخوف الحقيقي هو ألا تقرأ ولا تعرف»!
لقد أحببتُ واستمتعتُ شخصيّاً بقراءة هذا الكتاب لعدّة أسباب، ربّما أهمّها أني أزعم أني والمؤلّف من جيل واحد، لا تفصلنا إلا سنوات قليلة، ولذلك فإن أغلب الأحداث والذكريات التي وردت في الكتاب قد عشتها بنفس الطريقة وبنفس العيون ونفس الدهشة!
بالطبع لن أستطيع سرد كلّ الأحداث التي عشناها في تلك السنين البعيدة، ولكني سأذكر طرفاً من بعض الذكريات المشتركة، البعيدة عن هموم السياسة والاقتصاد والشئون الرسمية، والتي لايحفل بها الصبية عادةً، وكتب عنها المؤلف في مصر، ووصلنا صداها كما أتذكّره هنا في بلادي الحبيبة.
يذكر الأستاذ عبدالشكور: بأن الراديو كان في صباه نافذته الكُبرى على العالَم.. يستمع أحياناً إلى مباريات كرة القدم، وعليه أن يتخيّلُ الملعب بعد أن يُقسّمه المُعلّق الرياضي إلى مُربّعات؛ فيقول مثلاً: إن المربّعات 1 و 3 و 5 و 7، في نصف ملعب «الأهلي»، والمربّعات 2 و 4 و 6 و 8، في نصف ملعب «الزمالك».
وأنا أقول: كلّنا كان ذلك الصبيّ، مع استبدال أسماء الأندية «بالهلال» و«النصر».
وما دُمنا نتكلّم عن كُرة القدم، فقد ذكر الكاتب أن فريق «سانتوس» البرازيلي ونجمه العالمي الشهير «بيليه»، زار مصر في عام 1973 ولعب مع فريق «الأهلي»، وفاز «سانتوس» 5 / 0!
ويذكر طُرفة عن المُعلّق الشهير «محمد لطيف»، الذي علّق على تلك المباراة، وكان من المُشاركين في الفريق البرازيلي لاعب اسمه «إيدو» أحرز هدفاً رائعاً، فانتهز الكابتن «لطيف» الفرصة مُداعباً بالقول: «كأنّ «إيدو» حطّ الكورة في المرمى «بإيدو»..!
وأُضيف: بأن فريق «سانتوس» البرازيلي، زار الرياض أيضاً في نفس الجولة، وقابل المنتخب السعودي للناشئين في ملعب «الملّز»، وانتهت نتيجة المباراة بفوز «سانتوس» 3 / 0، سجّل منها «بيليه» هدفين في مرمى الكابتن «أحمد عيد».
يذكر المؤلّف: أن التلفزيون المصري بدأ إرساله ملوّناً في سنة 1976.
وأذكر أن التلفزيون الملوّن بدأ عندنا في «جدّة» عام 1974، وفي «الرياض» عام 1976.
يقول الصحفي والباحث الاجتماعي الأستاذ «منصور العسّاف» عن ذلك الحدث المشهود: «أبقت الأسرة صدر المجلس والصالة لضيفها المرتقب، حيث قوبل وميض التلفزيون الملوّن بشيء من الإعجاب، ودرجة عالية من الانبهار.. أصبحت المَشاهد والشخوص حاضرة كما هي، وميّز الشاب الرياضيّ فريقه المُفضّل عن مُنافسه؛ إذ لطالما قفز هذا الشاب فرحاً -إبّان التلفزيون الأبيض والأسود- بهدفٍ يلِج في مرمى فريقه»!!
وأخيراً يتذكّر المؤلّف مسرحية «مدرسة المشاغبين» سنة 1975، وتأثيرها على طلبة المدارس وتأثّرهم بها، وترديد جُمل وعبارات اشتهرت أيّما شُهرة.. ويضيف معلومة لم تكن معروفة كثيراً لدى الجمهور: في حوار أحد المَشاهد في المسرحية؛ حين تساءل الناظر عن اسم مدير المنطقة التعليمية الجديد، فيُجيبه الطالب: «رابسو»! فيترنّح الناظر ويهمس: «ده اللي حينضّف الوزارة..!
وفي الحقيقة أن «رابسو» هذا، لم يكن سوى إعلان تلفزيونيّ يتكرّر، وشعاره: «مسحوق التنظيف الذي يغسل أكثر بياضاً»!!
وختاماً، يقول الروائي الأستاذ «أحمد خالد توفيق»، وهو بالمناسبة من نفس هذا الجيل، عن هذا الكتاب: «لو كنتَ صبيّاً أو رجُلاً في السبعينيّات، فأنا أوصيك بقراءة هذا الكتاب، أما إن كنتَ لم تولد في السبعينيّات، فأنصحك بأن تُطالعه لتعرف كيف كان العالَم يتحرّك قبل مجيئك».